الأربعاء، 24 يوليو 2013

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ



النداء الثامِن والعشرون – قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
                                                                                     سورة المائدة : 1

سورة المائدة آياتها عشرون ومائة آية، وهى مدنية وبها ستة عشر نِداءً للمؤمنين.
سورة المائدة من السور المدنية الطويلة ، وقد تناولت كسائر السور المدنية جانبا مِن التشريع بإسهاب ، مِثل سورة البقرة والنساء والأنفال ، إلى جانب موضوع العقيدة وقصص أهل الكتاب . قال أبو مَيْسَرَة : المائدة مِن آخِر ما نَزَلَ مِن القرآن ليس فيها منسوخ ، وفيها ثمان عشرة فريضـــــة ( تفسير القرطبى )                                                                                         
نزلت هذه السورة مُنْصَرَف رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن الحُدَيبية ، وجِماعها تناول الأحكام الشرعية ، لأن الدولة الإسلامية كانت فى بداية تكوينها، وهى بحاجة إلى المَنْهَج الرَّبَّانِى الذى يعصمها مِن الزَّلَل ويَرْسِم لها طريق البِناء والاستقرار .                                               
أما الأحكام التى تناولتها السورة تتلخص فيما يلى :-
أحكام العُقُود، والذَّبائِح، والصَّيْد، والإحْرام، ونِكاح الكِتابِيَّات، والرِّدَّة، وأحْكام الطَّهارَة، وَحَدّ السَّرِقَة وَحَدّ البَغْى والإفساد فى الأرض، وأحكام الخَمْر والمَيْسِر، وكفارة اليمين، وقتل الصيد فى الإحرام، والوَصِيَّة عند الموت والبَحِيرَة والسَّائِبَة (1) والحكم على مَن ترك العمل بشريعة الله تعالى  .....
-----------------------------------------------------------------------------------------
(1) كان أهل الجاهلية إذا أنْتَجَت الناقة خَمْسةَ أَبْطُن آخِرها ذَكَر بَحَروا أُذُنَها أى شَقُّوها وحَرَّموا ركوبها وهى البَحِيرَة، وكان الرَّجُل يقول : إذا قَدِمْتُ مِن سَفَرى أو بَرِئْتُ مِن مَرَضِى فناقتى سائِبَة وجعلها كالبَحِيرة فى تحريم الانتفاع بها . وإذا وَلَدَتْ الشَّاةُ أُنْثَى فهى لهم، وإن وَلَدَتْ ذَكَرَاً لا يهتم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وَصَلَت أخاها وهى الوَصِيلَة، وإذا أنتجت صلب الفَحْل عَشْرَة أبْطُن قالوا قد حَمِىَ ظَهْرُه، وهو الحام . فلما جاء الإسلام أبطل هذه العادات كلها فقال تعالى ( ما جَعَلَ اللهُ مِن بَحيرَةٍ ولا سائِبَة ولا وَصِيلَة ولا حامٍ ولَكِنَّ الذين كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللهِ الكَذِبَ وأكثرُهم لا يَعْقِلُون ) سورة المائدة : 103

وإلى جانب هذا التشريع قَصَّ الله تعالى فى هذه السورة بعض القصص لِلْعِظَة والعِبْرَة ، فذَكَرَ قِصَّة بنى إسرائيل مع موسى عليه السلام، وهى قصة ترمز إلى التَّمَرُّد والطُغْيان مُمَثَّلَة فى هذه الشِّرْذِمَة الباغية مِن اليهود حين قالوا لرسولهم ( اذْهَب أنت وَرَبُّكَ فقاتِلا إنا هاهنا قاعدون ) وما جعل لهم من التشرد والضياع إذ وقفوا فى أرض التِّيه أربعين سنة .                                             
ثُمَّ قِصَّة ابْنَىّ آدَمَ، وهى قصة ترمز إلى الصراع العنيف بين قوتَىّ الخير والشر ممثلة فى قصة  ( قابيل وهابيل ) حيث قَتَلَ قابِيلُ أخاه هابِيلَ، وكانت أول جريمة نَكْرَاء تحدث فى الأرض أُرِيقَ فيها الدم البَرئ الطاهِر ، والقصة لِنَموذَجَيْنِ مِن نماذِج البَشَرِيَّة . نموذج النفس الشريرة الأثيمَة، ونموذج النفس الخَيِّرَة الكريمة ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيه فَقَتَلَهُ فأصْبَحَ مِن الخاسِرِينَ )، كما ذكرت السورة قصة ( المائدة ) التى كانت معجزة لعيسى عليه السلام ظهرت على يديه أمام الحَوَاريِّين . والسورة الكريمة تعرضت أيضا لمناقشة اليهود النصارى فى عقائدهم الزائفة، حيث نسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق به مِن الذُّرِّيَّة والبَنِين، ونقضوا العهود والمواثيق، وحَرَّفوا التوراة والإنجيل، وكفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخِر ما هنالك مِن الضلالات والأباطيل، وقد خُتِمَتْ السورة  الكريمة بالموقف الرهيب يوم الحشر الأكبرحيث يُدْعَى المسيح عيسى بن مريم على رءوس الأشهاد ويسأله رَبُّهُ تبكيتاً للنصارى الذين عَبَدُوه مِن دون الله ( أَأَنْتَ قُلْتَ للناس اتَّخِذونى وأُمِّىَ إلَهَيْنِ مِن دون الله  قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى إلا بِحَق )، وما لَه مِن مَوْقِف مُخْزٍ لأعداء الله تَشِيب لِهَوْلِه الرءوس، وتنفَطِر مِن فَزَعِه النفوس (1)
سبب نزول الآيات الكريمات  من 1 : 10 عن ابن عباس رضى الله عنهما أن المشركين كانوا يَحُجُّونَ البَيْتَ وَيَهْدون الهَدَايا وَيُعَظِّمون الشَّعائِر ويَنْحَرُون، فأراد المسلمون أن يُغيروا عليهم، فَنَزَلَتْ  ( يا أيها الذين ءَامَنوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ولا الشَّهْرَ الحَرام ولا الهَدْىَ ولا القَلائِد ..) (تفسير الطبرى )
وسورة المائدة مِن آخِر ما نزل مِن السور فى القرآن، وأحكامها كلها مُحْكَمَة ما عدا قوله تعالى ( ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ... ) الآية وهو قول الشعبى رحمه الله تعالى، وفيها أحكام لم توجد فى سورة أخرى غيرها مِن ذلك حكم المُنْخَنِقَة وما بعدها، والمُحْصَنات مِن الذين أُوتوا الكِتاب والوضوء وحكم السرقة (2)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
قال الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد ، قالت : إنى لآخِذَة بزمام العَضْباء ، ناقةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نَزَلَتْ عليه المائدةُ وكادت مِن ثقلها تَدَقُّ عَضُد الناقة، وقال أحمد أيضا عن عبد الله بن
--------------------------------------------------------------------------------------
(1) صفوة التفاسير – الشيخ / محمد على الصابونى           (2) أيسر التفاسير – الجزائرى ج1ص319

عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال : أُنْزِلَت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فَلَم تستطع أن تحمله فَنَزَلَ عنها (1)
العُقُود هى العُهُود التى بين العبد والرب تعالى، وبين العبد وأخيه ، والوفاء بها عدم نَكْثِها والإخلال بمقتضاها .
شَعائِر الله : جمع شَعِيرَة وهى مناسِك الحَج والعُمْرَة وسائر أعلام الدِّين .
الشهر الحرام : رجب وهو شهر مُضَر الذى كانت تُعَظِّمُه العرب .
الهَدْى : ما يُهْدَى للبيت الحرام مِن بَهِيمَة الأنعام .
القَلائِد : جمع قِلادة وهى ما يُقَلّد الهَدْى ، وما يتقلده الرَّجُل مِن لُحاء شَجَر الحَرَم ليأمَن .
الإثم : سائر الذنوب ، والعدوان : الظُّلْم وتجاوز الحَد (2)
قال الشيخ أبو بكر الجزائرى :
ينادى الحقُّ تبارك وتعالى عبادَه المؤمنين بعنوان الإيمان فيقول ( يا أيها الذين ءَامَنوا ) أى يا مَن ءَامَنتم بى وبرسولى ووعدى ووعيدى أَوْفُوا بالعقود (3) فلا تُحِلُّوها وبالعهود فلا تنكثوها ، فلا تتركوا واجباً ولا ترتكبوا مَنْهِيَّاً ، ولا تُحَرِّموا حلالا ولا تُحِلُّوا حَرَاما .أُحِلَّتْ لكم بهيمة (4) الأنعام وهى الإبِل والبَقَر والغَنَم إلا ما يُتْلَى عليكم وهى الآتِيَة فى قوله ( حُرِّمَتْ عليكم المَيْتَةُ والدَّمُ (5) ولحم الخِنْزير وما أُهِلَّ لغير الله به والمُنْخَنِقَة والمَوْقُوذَة والمُتَرَدِيَة والنَّطِيحَة وما أَكَلَ السَّبُعُ إلا ما ذَكَّيْتم وما ذُبِح على النُّصُب وأن تستقسِموا بالأزلام ذَلِكُم فِسق ... ) سورة المائدة : 3  
----------------------------------------------------------------------------------------
(1) تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى                                    (2) أيسر التفاسير – الجزائرى ج1ص319
(3) قال الحَسَن : يعنى عقودَ الدَّيْنِ، وهى ما عَقَدَه المرءُ على نَفْسِه مِن بيع وشِراء وإجارة وكِراء ومُناكحة وطلاق، ومُزارَعَة ومُصالَحَة وتمليك وتَخْيير وعتق وتَدْبير، وكذلِكَ ما عاهد اللهَ تعالى عليه مِن نَذْرٍ وسائِر التكاليف الشرعية وما خَرَجَ مِن عقد على شريعة الله رُدَّ وَحُلَّ ولا وفاء عليه.
(4) سُمٍّيَتْ البَهِيمَة بهيمة لإبهامها مِن جِهَة نقص نُطْقها وفَهْمها وعدم تمييزها وعَقْلها، ومنه باب مُبْهَم أى مُغْلَق وليل بَهِيم لا يُمَيِّز ما فيه مِن الظلام ، وقولهم فى الشُّجاع مِن الرِّجال : بُهْمَة لأنه لا يُدْرَى مِن أين يُؤْتَى.                                                                                      
(5) وما حُرِّمَ بالسُّنَّة، وهو كُل ذِى نابٍ مِن السِّباع كالأَسَد، والذِّئْب، والثَّعْلَب، وذِى مِخْلَب مِن الطَّيْر كالنِّسْر، والصَّقْر؛ لثبوت ذلك فى الأحاديث الصحيحة.                                                   

فلا تُحَرِّموها، وحرمت عليكم الصَّيْد وأنتم حُرُم (1) فلا تُحِلُّوه، وسَلِّموا الأمر لى فلا تنازعوا فيما أُحِلَّ وحُرِّم فإنى أحكم ما أُريد وقوله ( إن الله يَحْكُم ما يريد ) فهذه الجملة تقتضى تسليم الأمر لله فلا اعتراض عليه فيما يحل ويحرم وهو كذلك (2)
-----------------------------------------------------------------------------------------
(1) أما إذا حَلوا مِن إحرامهم فالصيد حلال، كما هو فى غير الإحرام إذا ما كان مِن صيد الحرم فإنه حرام فى الإحرام والإحلال لقوله صلى الله عليه وسلم ( إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَها اللهُ ، وَلَمْ يُحَرِّمها الناسُ، فلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بالله واليَوْم الآخِر أن يَسْفِكَ بها دَمَاً .... ) الحديث فى صحيح الجامع للألبانى رقم 2197 
(2) أيسر التفاسير – الجزائرى ج1ص320                                                  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق