الثلاثاء، 5 يناير 2016

مَرْحَى بِشَهْرِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ 

إعداد / محمد حسن نور الدين إسماعيل


المقدمة
 إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو عبده ورسوله أما بعد ، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أما بعد.
أيها المسلمون: بعد أيام قلائل يطل علينا ضيف مبارك ، وشهر عزيز على قلب كل مؤمن، شهر الخير والبركة، شهر القُرَب والعبادة، إنه شهر رمضان المبارك، فيه تتفتح خزائن الفضل والرحمة والإحسان، وتقبل ليالي الجود والغفران، بعد أيام قلائل يتهيأ المؤمنون للعبادة المتواصلة، ويخلصون لله الطاعات ، إن هذا الشهر شاهد يوم القيامة بالإحسان لمن أحسن، وبالإساءة لمن أساء، والعاقبة للمتقين، فطوبى للصائمين، والويل للمفطرين والمجاهرين
شهر فيه يزكي المسلم نفسه بالصيام ويطهرها بالتقوى قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة : 183 
فيا ذوي الهمم العالية، ويا ذوي المطالب الرفيعة السامية: الغنائم على قدر الجد وهجر البطالة، فالأوقات الفضائل فوات، ألا فشمروا لقِراه بالتوبة والإنابة، وابذلوا في ضيافته مقدوركم من الأعمال المستطابة، وأروا الله الخير من أنفسكم فيه، فإن الله تعالى ينظر إلى جدكم وتنافسكم فيه، ولقد كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله، وكان الحبيب -عليه الصلاة والسلام-
يبشر أصحابه بقدوم رمضان فيقول: ( أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله -عز وجل- عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم ) صحيح الجامع للألبانى
فهيا نشمر جميعا لنغتنم هذه النفحات المباركة ونتوب لله تعالى بترك المعاصى وفعل الطاعات ونقول كما قال موسى عليه السلام لربه تبارك وتعالى ( وعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى )


وكتبه ؛ محمد حسن نور الدين إسماعيل
الثلاثاء التاسع عشر من شهر شعبان عام 1435 هـجرى
السابع عشر من شهر يونيو عام 2014 ميلادى


مُبَشِّرَاتٌ وَنَفَحاتٌ ....

لقد خص الله تعالى هذا الشهر المبارك بنفحات مباركة وفضائل عظيمة فهو أفضل شهور العام ، ويكفيه أنه الشهر الذى أنزل الله فيه القرآن على رسول محمد صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه:
( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون )  البقرة :  185 

ففى هذا الشهر المبارك نعيش نفحاته.. ونشهد خيراته.. و ننعم ببركاته .. شهر عظيم الأمر .. جليل القدر .. أوقاته ليست كسائر الأوقات .. فيها تتضاعف الأجور .. و ترفع الدرجات .. و تتنزل الرحمات .. و تغفر السيئات .. تعلو أصوات المؤذنين .. وتترد تراتيل الأئمة فى المساجد .. وتكثر الدعوات،  الكل يرجو أن ينال نفحات هذا الشهر المبارك، ففيه يُقبِل المسلمون على ربهم تبارك وتعالى راجين منه المغفرة والرضوان والعتق من النيران، فتنزل السكينة ، وتظهر علامات الإيمان على الوجوه ، وَتَرِقّ القلوب إجلالا لهذه الأوقات الفاضلة ، فيتلاقى الأحبة، ويتزاور المسلمون، ويعطف الغنى على الفقير، وتنتشر الآداب الإسلامية والأخلاق السامية التى دعا إليها الإسلام ، فيمسك الناس عن الكذب والغيبة والنميمة ، كل ذلك لأن نفحات رمضان قد هبت على نفوسهم فأراحت قلوبهم وطمأنتها فاستقامت الجوارح وذلت فآثَرَت الطاعات واجتنبت المعاصى.

فضائل هذا الشهر الكريم ......

الصيام : 
قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياماً معدودات فمن شهد منكم الشهر فليصمه )
ثم بين سبحانه وتعالى أن هذه الأيام المعدودات هي شهر رمضان بقوله جل جلاله : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه )

يخصَّص للصائم المخلص بصيامه باب من أبواب الجنة يدعى باب الريان : 
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الصيام و الرَّيان ) رواه البخارى

جعل الله سبحانه و تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فجعله له سبحانه و تعالى : 
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف , قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به , يدع طعامه وشرابه من أجلي , للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه , ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك ) متفق عليه

تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار : 
في شهر رمضان المبارك يفتح الله سبحانه وتعالى أبواب الجنة على مصراعيها لكل تائب توبة نصوحة وفق شروطها الشرعية المعتبرة وتغلق بوجهه كل أبواب الجحيم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب الجحيم ) - متفق عليه
لذلك نرى أن كثيراً من العصاة يتوبون إلى الله توبة نصوحة في شهر رمضان فيلزمون المساجد ويحافظون على الصلوات والصيام وغير ذلك من الخيرات , كما نلاحظ كثرة المصلين في المساجد وقلة الخلافات بين الناس.

تصفد الشياطين : 
ومن مزايا شهر رمضان المبارك أن الله سبحانه وتعالى يصفد الشياطين الذين يسعون في الأرض فساداً
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وسلسلت الشياطين ) - متفق عليه 


غفران ما تقدم من الذَّنب : 
وفي شهر رمضان تفضل الله سبحانه وتعالى علينا بأنه من صام رمضان إيماناً به واحتساباً له غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنوبه جميعاً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله تعالى له ماتقدم من ذنبه ) متفق عليه 


للصائم فرحتان : 
إن الله سبحانه وتعالى يضاعف الصالح من عمل ابن آدم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم جعل جزاءه من نوع خاص إذ أن الصوم لله تعالى وهو يجزي به فالذي يضع شهوته وطعامه وشرابه من أجل الرحمن الرحيم يعطيه الله تعالى فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف , قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به , يدع طعامه وشرابه من أجلي , للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه , ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك ) متفق عليه

واستبقوا الخيرات ....

ومما يغتنم فى هذا الشهر المبارك الاستباق إلى الخيرات والطاعات فمنها :
1- المحافظة على الصلاة جماعة - الزكاة - صلة الأرحام - بر الو الدين - تفقد الجيران - الصفح عمن بينك وبينه شحناء - عدم الإسراف - تربية من تحت يديك - الاهتمام بأمور إخوانك المسلمين - عدم صرف شيء مما وليت عليه لفائدة نفسك - استجابتك وفرحك بالنصح - الحذر من الرياء - حبك لأخيك ما تحب لنفسك - سعيك بالإصلاح - عدم غيبة إخوانك - تلاوة القرآن وتدبر معانيه.

2- القيام
قال صلى الله عليه وسلم( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه ) متفق عليه.
وقال( من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليله) رواه أهل السنن وحسنه الترمذي.
وللمرأة ان تصلي التراويح في المسجد بشرط أن تخرج محتشمة غير متبرجة بزينة ولا متطيبة.
3- التسامح والإعراض عن الجاهلين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله في ان يدع طعامه وشرابه ) رواه البخاري
4- الاجتهاد في العشر الأواخر.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره واحيا ليله وأيقظ أهله. 
 5- الاعتذار عن الخطأ والتسامح.
شهر رمضان شهر التسامح والغفران والمسلم في هذا الشهر يتحلّى بالأخلاق الكريمة ويعامل الناس معاملة حسنة، وإذا أخطأ المسلم في حق أخيه ندم على ذلك وسارع بالاعتذار إليه.

معنى الصوم....

الصوم ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو أيضًا امتناع عن معصية الله .
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"، أي من لم يترك قول الكذب والعمل به فلا فائدة من صيامه.
فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، فالصيام ينقّي القلب وعلى المسلم أن يلتزم بالأخلاق الطيبة والسلوك القويم في رمضان.
ومن المهم أن نتذكر أنه على المسلم أن يتصف بالأخلاق الحميدة دائمًا وأن يستغل شهر رمضان لتدريب النفس على هذه الأخلاق.


﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)     
                                                                                               سورة البقرة : 183

كُتِبَ : أى فُرِضَ
والصَّوْم فى الأصل الإمساك عن الفعل مَطْعَماً كان أو كلاما أو مَشْيَاً ولذلك قيل للفَرَس المُمْسِك عن السَّيْر والعَلَف صائم قال الشاعر : خيلٌ صِيامُ وأخرى غيرُ صائمةٍ. وقيل للريح الراكدة صَوْم ولاستواء النهار صَوْم تصوراً لوقوف الشمس فى كبد السماء ولذلك قيل قام قائم الظهيرة.
والصَّوْم فى الشرع : إمْساك المُكَلَّف بالنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن تناول الأطْيَبَيْنِ ( الأكْل والجِماع ) والاستمناء والاستقاء وقوله تعالى ( إنِّى نَذَرْتُ للرَّحْمَن صَوْماً ) فقد قيل عُنى به الإمساك عن الكلام بدلالة قوله تعالى ( فلن أُكَلِّمَ اليومَ إنْسِيَّاً )(1)(2)
لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأصبحت دار إسلام أَخَذَ التشريع ينزل ويتوالى، ففى الآيات السابقة كان حكم القصاص والوصية ومراقبة الله فى ذلك وكان أعظم ما يكون فى المؤمن مِن مَلَكَة التَّقْوَى الصيام، فأنزل الله فَرْضَ الصيام فى السنة الثانية للهجرة فناداهم الله بعنوان الإيمان( يا أيها الذين ءامنوا )


-----------------------------------------------------------------------------------------

(1) سورة مريم : 26                                 (2) المفردات فى غريب القرآن ـ الراغب الأصفهانى

وأعلمهم أنه كَتَبَ عليهم الصيام كما كَتَبَه على الأمم السابقة (1) من قبلهم فقال ( كما كُتب على الذين من قبلكم ) وعلل ذلك بقوله ( لعلكم تتقون ) أى لِيُعِدَّكم به للتقوى التى هى امتثال الأوامر واجتناب النواهى لما فى الصيام من مراقبة الله تعالى وقوله ( أياماً معدودات ) ذَكَرَه لِيُهَوِّنَ به عليهم كلفة الصوم ومشقته إذ لم يجعله شهوراً(2) ولا أعواماً وزاد فى التخفيف أن أذن للمريض والمسافر أن يُفْطِر ويَقْضِى بعد الصحة أو العودة من السفر فقال ( فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيامٍ أُخر ) كما أن المريض(3) والمسافر إذا كانا يطيق الصيام بمشقة وكلفة شديدة فله أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا وأعلمهم أن الصيام فى هذه الحال خير ، ثم نسخ هذا الحكم الأخير بقوله تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وقوله ( إن كنتم تعلمون ) يريد : تعلمون فوائد الصوم الدنيوية والأخروية وهى كثيرة أجلها مغفرة الذنوب وذهاب الأمراض (4)

فصيام شهر رمضان إذا صِيمَ بحقه يكون سبباً فى مغفرة الذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) (5) وقال (من صام يوماً فى سبيل الله بَعَّدَ الله وجهه عن النار سبعين خَرِيفاً )(6)
قال تعالى ( شَهْرُ رَمَضانَ الذِى أُنزِل فيه القرآنُ هُدَىً للنَّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدَى والفُرْقان فَمَن شَهِدَ مِنكُم الشَّهْر فَلْيَصُمْهُ .... ) الآية
رمضان : شهر وهو من الرَّمْض أى شدة وقع الشمس، يقال أَرْمَضْتَه فَرَمِضَ أى أحرقته، والرَّمْضاء هى شدة حر الشمس وأرض رَمِضة ورَمِضَتْ الغنم رَعَتْ فى الرَّمْضاء فقرحت أكبادها(7) ويجمع على رمضانات وأَرْمِضاء، ورمضان هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية ولفظ الشهر مأخوذ من الشُّهَرة وهذه آية فضله عن سائر الشهور حيث أنزل فيه القرآن وذلك فى ليلة القدر منه لقوله تعالى ( إنا أنزلناه فى ليلة القدر )(8) وقوله ( إنا أنزلناه فى ليلةٍ مُبارَكَة )(9)


-------------------------------------------------------------------------------------------

(1) ويشهد لذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم ( أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْم أَخِى داودَ كان يَصُومُ يَوْماً ويُفْطِرُ يَوْماً ولا يَفِرُّ إذا لاَقَى ) رواه الترمذى رحمه الله تعالى عن ابن عمر رضى الله عنه ـ  ص . ج للألبانى رقم  1120
(2) بداية الآية ( شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ... ) البقرة : 185
(3) المريض له حالتان الأولى : أن يكون مرضه شديدا فهذا يجب أن يفطر والثانية : أن يكون غير شديد فيستحب له الفطر .
(4) أيسر التفاسير للجزائرى ج1ص90                     
(5) رواه البخارى ومسلم رحمهما الله تعالى 
(6) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي رحمهم الله تعالى
(7) المفردات فى غريب القرآن - الراغب الأصفهانى 
(8) سورة القَدْر : 1   
(9) سورة الدُّخان : 3

أُنزِلَ القُرْآنُ جُمْلَةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة فى سماء الدنيا ثم نزل نَجْماً بعد نَجْم (1) وابتُدِئ نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رمضان أيضا ، ( هدى للناس ) أى هاديا للناس إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم فى الدارين ( وبينات من الهدى والفرقان ) البينات جمع بَينة والهُدَى : الإرشاد                                                                                  
والمراد أن القرآن نزل هادياً للناس ومبيناً لهم سبيل الهدى موضحاً طريق الفوز والنجاة فارقاً لهم بين الحق والباطل فى كل شؤون الحياة ( شهد منكم الشهر ) أى من حضر الإعلان(2) عن رؤيته ( فعدة من أيام أُخَر ) فعليه القضاء بعدد الأيام التى أفطرها مريضاً أو مسافراً ( ولتكملوا العدة ) وجب القضاء من أجل إكمال عدة الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين يوما ( ولتكبروا الله على ما هداكم ) وذلك عند إتمام صيام رمضان من رؤية الهلال إلى العودة إلى صلاة العيد والتكبير مشروع وفيه أجر كبير وصفته المشهورة ( الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ،  الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ) ( ولعلكم تشكرون ) فرض عليكم الصيام وندبكم إلى التكبير لتكونوا من الشاكرين لله تعالى على نعمه لأن الشكر هو الطاعة (3)
ثم قال تعالى فى الآية التى تليها : ( وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب ) فهو قريب لعباده ولا يحتاج إلى واسطة، وإذا تأملنا إلى لفظة ( يسألونك ) فى القرآن الكريم نجدها اقترنت بفعل الأمر ( قُل ) كقوله تعالى : ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) وقوله سبحانه ( يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى ) وما شابه ذلك من الآيات . أما فى هذه الآية الكريمة ( وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب ) لَمْ  يَقُلِ الله عز وجل قُلْ إنى قريب ، وهذا يدل على أن الدعاء لا يحتاج إلى واسطة لأن الدعاء عبادة لا تُصْرَفُ إلا لله لقوله صلى الله عليه وسلم ( الدُّعاء هو العِبَادَة )(4)
وهذا رد ودليل واضح بَيِّن على من يذهبون إلى أصحاب القبور والأضرحة فيتوسلون بهم ويَدْعونهم من دون الله ليدفعوا عنهم الضر أو يجلبوا لهم النفع ، فهذا من الشرك المنهى عنه ، فدعاء الله لا يحتاج إلى واسطة لأنه سبحانه وتعالى أقرب إلينا من حبل الوريد ويعلم ما توسوس به أنفسنا وهو عليم بذات الصدور ، ويحب الملحين فى الدعاء  ، ومما يُحْرَمُ به إجابة الدعاء أَكْل الحرام والاستعجال بأنْ يقول العبد دعوتُ فلم يُستجَب لى فهذا ليس من آداب الدعاء .

---------------------------------------------------------------------------------------------
(1) نَجَمَ الشَّئ ظَهَر وطَلَعَ والنَّجْم الوقت المضروب ومنه سُمِّى ( المُنَجَّم ) ( مختار الصِّحَاح ) ، والقرآن المُنَجَّم المُنَزَّل قَدْراً فَقَدْرا ( المفردات للراغب الأصفهانى )
(2) أكثر أهل العلم على أن شهادة الواحد العَدْل تقبل فى رؤية هلال رمضان أما رؤية هلال شوال فلا بد من شاهدين اثنين عَدْلَيْنِ                                              
(3) أيسر التفاسير للجزائرى ج 1ص91
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن رحمهم الله تعالى ص. ج . رقم 3407 ، أما حديث ( الدعاء مخ العبادة ) فهو ضعيف السند.
مِن حِكَم وأسرار الصيام :

1 ـ عبادة الله وحده والخضوع له؛ ليكون الصائم مُقْبِلا على الله تعالى خاضِعاً خاشعاً بين يديه حينما ينكر سلطان الشهوة ، فإن القوة تغرى بالطغيان والبطر قال تعالى ( كلا إنَّ الإنسانَ لَيَطْغَى * أن رآه اسْتَغْنَى )(1) فليعلمْ أنه ضعيف فقير بين يدى الله حينما يرى ضعفه وعجزه فينكر فى نفسه الكبر والعظمة فيستكين لربه ويَلَين لِخَلْقِه .
2 ـ حِكَمٌ اجتماعية من اجتماعهم على عبادة واحدة فى وقت واحد، وصبرهم جميعا قَوِّيّهم وضعيفهم، شريفهم ووضيعهم، غَنِّيهم وفقيرهم، على معاناتها وتحملها مما يسبب رَبْط قلوبهم وتآلف أرواحهم وجمع كلمتهم وليس شئ أقوى من هذه الإرادات المتينة التى لا تحكمها أقوى الدِعايات كما أنه سبب عطف بعضهم على بعض ورحمة بعضهم بعضا حينما يحس الغَنِىُّ ألَمَ الجُوع ولَذْع الظَّمَأ فيتذكر أن أخاه الفقير يعانى هذه الآلام دهْرَه كله فيجود عليه من ماله بشئ يزيل الضغائن والأحقاد ويحل محلها المحبة والوئام وبهذا يتم السِّلمُ بين الطبقات.
3 ـ حِكَمُ أخلاقية  تربوية فهو يُعَلِّم الصبر والتحمل ويقوى العزيمة والإرادة ويُمَرِّن على ملاقاة الشدائد وتذليلها والصِّعاب وتهوينها .                                                                     
4 ـ حِكَمٌ صحية فإن المعدة بيت الداء والحِمْيَة (2) رأس الدواء ولا بد للمعدة أن تأخذ فترة استراحة واستجمام بعد تعب توالى الطَّعام عليها واشتغالها بإصلاحه ، فهذه نُبَذٌّ تشير إلى شئ من حِكَمِ الله تعالى ، واستقصاء ما يحيط به العقل البشرى يحتاج إلى تصانيف مستقلة وفضلا عما لا يعلمه إلا الله تعالى من الأسرار الحكيمة الرشيدة .
فوائد فقهية فى أحكام الصيام :
1 ـ يُنْهَى عن تَقَدٌّم رمضان بصيام يوم أو يومين ويُرَخَّص فى ذلك لمن صادف قبل رمضان له عادة صيام كيوم الخميس والاثنين ، ومِن حِكَمِه كذلك والله أعلم تمييز فرائض العبادات من نوافلها، والاستعداد لرمضان بنشاط ورغبة وليكون الصيام شعاره المميز .
2 ـ صيام شهر رمضان مُعلَّق برؤية الهلال للناس أو بعضهم وكذلك الفطر وإن لم يُرَ الهلال لم يصوموا إلا بتكميل شعبان ثلاثين يوما وكذلك لم يُفْطِرُوا إلا بتكميل رمضان ثلاثين يوماً.
3 ـ وقت الإمساك يكون بطلوع الفجر قال تعالى ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر وبهذا نعلم أن ما يجعله الناس من وقتين وقت للإمساك، ووقت لطلوع الفجر بدعة ما أنزل

---------------------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة العلق : 6 ، 7
(2) الحِمْيَة : حِمْيَة المريض أى منعه ما يضره ، والحَمِىّ : المريض الممنوع ما يَضُرُّه ، والحَمِيَّة : الأَنَفَة وفى القرآن ( إذ جعل الذين كفروا فى قلوبهم الحَمِيَّة حَمِيَّة الجاهلية، والحَمِيَّة: المحافظة على المَحْرَم والدِّين مِن التُّهْمَة (المعجم الوجيز) 
الله بها من سلطان، وإنما هو وَسْوَسَة من الشيطان ليلبس عليهم دينهم وإلا فالسنة المحمدية أن يكون الإمساك عند أول طلوع الفجر. 
4 ـ يصح صوم من أصبح جُنُباً من جِماع الليل ويقاس على الجماع الاحتلام لأنه إذا كان مُرَخَّصاً فيه من المختار فغيره أولى .
 5 ـ جمهور العلماء على أن الأكل والشُّرْب من الناسى لا يُفْسِد الصوم  والخلاف بينهم فى الجِماع فذهب الأئمة أبو حنيفة والشافعى وداود وابن تيمية وغيرهم إلى أنه لا يفسد الصيام بالجِماع إذا كان ناسياً.  
6 ـ يرى عامة الفقهاء وجوب الكفارة على من جَامَعَ مُتَعَمِّدَاً فى نهار رمضان واختلفوا فى الناسى والصحيح أن الناسى ليس عليه كفارة والكفارة عِتْق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً وذلك على الترتيب لا على التخيير وإن عجز سقطت عنه .
7 ـ يجوز الصيام فى السفر ويجوز أَخْذُ الرخصة بالفطر وذهب جماهير ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله إلى جواز الصيام والفطر فى السفر ومقدار السفر الذى يباح فيه الفطر وقصر الصلاة ما عُدَّ سفرا عُرْفَاً فالشرع أطلق السَّفَر فنطلقه كما أطلقه . 
8 ـ يحرم صوم يَوْمَىّ الفِطْرِ والأضْحَى وهو رأى الجمهور .
9 ـ الصيام يُقْضَى عن المَيْت سواء كان نذراً أو واجبا أصلياً كصيام رمضان .
10 ـ يحرم الوِصال فى الصيام باليومين فأكثر وهو ترك ما يفطر بالنهار عَمْداً فى ليالي الصيام ، والوصال من خصائص النبى صلى الله عاليه وسلم لأنه هو الذى يقدر وحده عليه ولا يلحقه أحد فى هذا المقام .   
11 ـ يُكْرَه صيام يوم الجمعة منفردا ولَكِنْ يُباح صومُه ويزيل كراهة صومه أن يقترن إليه صوم يوم قبله أو بعده أو أن يكون ضمن صوم يوم معتاد كأن يصادف يوم عرفة أو يوم عاشوراء أو أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر الهِجْرِىّ (1)

ومن الفوائد الفقهية أيضاً :

1- من عجز عن صيام رمضان لِكِبَرٍ أو مرض لا يُرْجَى بُرْؤه ( شِفَاؤُه ) فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً.

2- المسافر والمريض الذى يُرْجَى بُرْؤه ( شفاؤه ) لهما الفطر وعليهما القضاء.

------------------------------------------------------------------------------------------------

(1) تيسير العلام شرح عمدة الأحكام – الشيخ البسام ج 1
3- الحامِل والمُرْضِع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وأطعمتا وقضتا ، وفى الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى  ( إن كانت الحامل تخاف على جنينها فإنها تُفْطِر وتَقْضِى عن كل يوم يوما وتطعم عن كل يوم مسكينا رطلا مِن خُبْزٍ بأدمه ، أما إذا خافتا على نَفْسَيْهِما  - الحامل والمرضع ـ فلهما الفطر وعليهما القضاء بلا خلاف )

4- الحائِض والنُّفَساء يجب عليهما الفطر والقضاء ويحرم عليهما الصيام .

5- يجب الفطر على من احتيج إليه لإنقاذ معصوم من مَهْلَكَة كَغَرَقٍ ونحوه لأنه يمكنه تدارُك الصوم بالقضاء ويحرم على مَن لا عُذر له الفطر فى رمضان وعليه القضاء والتوبة إلى الله  .

6- لا بأس بالحُقْنَة ( الإبْرَة ) أثناء الصيام ولو كانت للتغذية والأحْوَط تركها ، ولا بأس بالاكْتِحال والتَّطَيُّب.

7- لا يفسد الصوم بخروج دَم رُعاف أو جُرْح أو قلع سِنٍ أو مُداواة جرح أو التبرع بالدم أو الحِجَامَة.

8- يحرم صيام أيام التَّشْريق وهى الحادى عشر، والثانى عشر، والثالث عشر، من شهر ذِى الحِجَّة إلا لِمُتَمَتِّعٍ أو قارِنٍ لا يَجِدُ الهَدْى (1)

هذا وأسأل الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم بما قرأنا وأن يجعله فى ميزان الحسنات وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .




محمد حسن نور الدين إسماعيل
الثلاثاء التاسع عشر من شهر شعبان عام 1435 هـجرى
السابع عشر من شهر يونيو عام 2014 ميلادى




---------------------------------------------------------------------------------------------------------


(1) أصول المنهج الإسلامى ـ العبيد ج1 ص 250

الاثنين، 4 يناير 2016

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ

النداء التاسع والستون – قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
                                                                                  سورة الحُجُرات : 1
سورة الحُجُرات مدنية وآياتها ثماني عشرة آية، وهي بداية المُفَصَّل . فأشهر الأقوال أن أول المفصل ( الحُجُرات ) وأول وسط المفصل ( عَبَس ) وأول قِصار المفصل ( الضُّحي ) هذا أشهر أقوال المالكية . وطلب هذا لأجل الصلاة المفروضة، ففي الصُبح يستحب القراءة بطوال المفصل، وفي الظهر والعشاء بمتوسطه وفي المغرب بِقِصاره . ذكر لسبب نزول هذه السورة عِدَّة روايات . منها ما ذكره الوَاحِدِي ورواه البخاري وهو أن راكباً مِن بني تميم قَدِمَ علي رسول الله . فقال أبو بكر : أمِّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : أمِّر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردتَ إلا خلافي ، فقال عمر ما أردتُ خِلافك ، فتمارَيا حتي ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا (1) بين يدي الله ورسوله .. (2) .
ونزلت هذه السورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب زيادة على ما تضمنت من الأحكام الشرعية والهدايات القرآنية (3) .
قال الشيخ أبو بكر الجزائرى في تفسير الآية الكريمة :
لو بحثنا عن المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها لتجلَّت لنا واضحة إذا رجعنا بالذاكرة إلى موقف عمر رضي الله عنه . وهو يريد أن لا يتم صلح بين المؤمنين والمشركين، وإلى موقف الصحابة كافة من عدم التحلل من إجرامهم ونحر هداياهم والرسول يأمر وَهُم لا يستجيبون حتي تَقَدمَّهم صلى الله عليه وسلم فَنَحَرَ هَدْيَه ثم نحروا بعده وتحللوا، إذ تلك المواقف التي أشرنا إليها فيها معنى تقديم الرأي والقول بين يدي الله ورسوله وفي ذلك مَضَرَّة لا يعلم مداها إلا اللهُ، ولما انتهت تلك الحال وذلك الظرف الصعب أنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا ) أي بالله رباً وإلهاً وبالإسلام شِرعة وديناً وبمحمد نبياً ورسولاً، ناداهم بعنوان الإيمان ليقول لهم ناهياً ( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) أي قولاً ولا عملاً ولا رأياً ولا فِكْراً أي لا تقولوا ولا تعلموا إلا تَبَعاً لما قال اللهُ ورسولُه ، وشَرْع اللهِ ورسولِه ( واتقوا الله ) في ذلك فإن التقدم بالشيء قبل أن يشرع الله ورسوله فيه معني أنكم أعلم وأحكم من الله ورسوله وهذه زَلَّة كبرى وعاقبتها سوء، ولذا قال ( واتقوا الله إن الله سميع عليم ) أي لأقوالكم ( عليم ) بأعمالكم وأحوالكم . ومن هنا فواجب المسلم
-------------------------------------------------------------------------------------
(1) قرأ يعقوب ( لا تَقَدَّمُوا ) بفتح التاء والدال من التقدم أي لا تتقدموا وقرأ الآخرون بضم التاء وكسر الدال من التقديم .
(2) ذكر البغوى في تفسيره عن قتاده في سبب نزول الآية . قال قتادة : نزلت الآية في ناس كانوا يقولون لو أنزل في كذا وصُنِع في كذا وكذا . فكَرِه اللهُ ذلك . وقال مجاهد : لا تفتأوا على رسول الله بشيء حتي يقضيه الله علي لسانه وقال الضحاك : يعني في القتال وشرائع الدين لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله .    (3) أيسر التفاسير - الجزائرى ج 2 ص 1500

أن لا يقول ولا يعمل ولا يقضي ولا يُفتي برأيه إلا إذا علم قَوْلَ اللهِ ورسولِه وحُكْمهما وبعد أن يكون قد علم أكثر أقوال الله والرسول وأحكامهما، فإن لم يجد من ذلك شيئاً اجتهد (1) فقال أو عمل بما يراه أقرب إلى رضا الله فإذا لاح له بعد ذلك نَصٌ مِن كتاب أو سنة عَدَلَ عن رأيه وقال بالكتاب والسنة (2) .
فيجب تقديم كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامهما وأمرهما ونهيهما علي سائر الكلام والأحكام والأوامر والنواهي فكل ما فيه الخلاف بين الصحابة فَمَن بعدهم يجب رده إلى الكتاب والسنـة . قال تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فَرُدُّوه إلي الله والرسول )(3) فالرد إلي الله تعالى هو الرد إلي كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إلي سنته بعد انقطاع الوحي فما وافقهما قُبِل وما خالفهما رُدَّ على قائله كائناً من كان .
وقال علي بن أبي طالب : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخُف أولى بالمسح من أعلاه .
وقال عمر بن عبد العزيز : لا أري لأحد مع سنة سَنَّها رسولُ الله صلي الله عليه وسلم .
وقال الشافعي : أجمع الناسُ على أن مَن اسْتَبانَبْ له سُنَّة عن رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس (4) .


-----------------------------------------------------------------------------------------
(1) شاهِدُه حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال له رسول الله حين بعثه إلي اليمن : ( بِمَ تَحكُم ؟ ) قال : بكتاب الله تعالى قال رسول الله : ( فإن لم تجد ؟) قال بسنة رسول الله . قال رسول الله : ( فإن لم تجد ؟ ) قال رضي الله عنـه : أجتهد رأيي ولا آلُو . فَضَرَبَ رسولُ الله في صَدره وقال : ( الحمد الله الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ اللهِ لما يرضى رسول الله . وقد قال بعض أهل العلم إن هذا الحديث فيه مقال.
(2) أيسر التفاسير - الجزائرى ج 2 ص 1501 .                                 (3) سورة النساء : 59   
                                        

(4) مختصر معارج القبول – هشام عقدة ص 443 .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا

النداء السادس والستون – قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)     سورة الأحزاب : 70 ، 71

قال الشيخ أبو بكر الجزائري في هذه الآية :
( يا أيها الذين آمنوا ) أي صدقوا الله ورسوله ( اتقوا الله ) أي خافوا عقابه . فأدُّوا فرائضه واجتنبوا محارمه . والثاني بالتزام القول الحق الصائب السديد، ورتَّبَ على الأمرين صلاح أعمالهم ومغفرة ذنوبهم إذ قول الحق والتزام الصدق مما يجعل الأقوال والأعمال مثمرة نافعة، فتثمر زكاة النفس وطهارة الروح ثم أخبرهم إياهم بقوله ( ومن يطع الله ورسوله ) في الأمر والنهي ( فقد فاز فوزاً عظيماً ) وهي سعادة الدَّارَيْن : النجاة من كل مخوف والظَّفَر بكل محبوب مرغوب ومن ذلك النجاة من النار ودخول الجنة (1) .
وعن ابن عباس موقوفاً : ( مَن سَرَّهُ أن يكون أَكْرَم الناس فَلْيتقِ الله ) قال عكرمة : القول السديد : "لا إله إلا الله"، وقال غيره : السديد الصدق، وقال مجاهد هو السداد وقال غيره : هو الصواب . والكل حق (2) .
هداية الآيتين الكريمتين :
1- وجوب تقوى اللهِ عز وجل بفعل أوامره وترك نواهيه .
2- صلاح الأعمال لتثمر للعاملين الزكاة للنفس، وطيب الحياة متوقف علي التزام الصدق في القول والعمل وهو القول السديد المنافي للكذب والانحراف في القول والعمل .
3- طاعة الله ورسوله سبيل الفوز والفلاح في الداريْن (3)
قال الشيخ الدكتور طلعت زهران حفظه الله تعالى :
إذاً فلنعلم يا إخوتنا ويا أخواتنا : أن الله تعالى أمركم بتقواه، وأن تقولوا قولاً سديداً مستقيماً عدلاً، ووعدكم علي ذلك إصلاح أعمالكم ومغفرة ذنوبكم ثم الفوز العظيم في الآخرة. ولنعلم أن الأمة الإسلامية تبقي صالحة، ما صلح رجالها ونساؤها. والصلاح لا يكون إلا بتقـوى الله والاستقامة والثبات علي دين الله الحق، الذي ارتضاه لعباده . أي لابد من صلاحٍ في الأقوال

-----------------------------------------------------------------------------------------
(1) أيسر التفاسير ج2 ص 1228
(2) مختصر تفسير ابن كثير ج 3  ص 117 .
(3) أيسر التفاسير ج 2 ص 1229

وصلاحٍ في الأعمال وصلاحٍ في الاعتقادات، وصلاح في المعامـلات، وصلاح في كل نواحي الحياة ، ومن المؤسف أن نجد كثيراً من الأمثال الشَّعْبِيَّة والأقوال والأفعال والاعتقادات والمعاملات والأسماء تجترئ جرأة غريبة على شرع الله وتتعارض مع كلام الله وسنة رسوله، حتي أصبح كثير من الناس يعتقدون في الخرافات والجهالات ويضربون الأمثال الضالة المُضِلَّة التي تتصادم مع العقيدة الصحيحة ومثل هذا الذي يفعله الناس أو يعتقدونه أو تَلُوكُه ألسنتُهم بغير تدبر أو رَوِيَّة قد يؤدي إلي الخُسْران المبين قال تعالي ( وتَحْسَبُونَه هَيناً وهو عند الله عَظِيم )(1) وبسبب البعد عن دين الله – مع التمسك بهذه الأخطاء والخُرافات والاعْتِقادات الخاطِئَة – أصبحنا أضعف أهل الأرض، وحَلَّ بنا البَوار في ديننا ودنيانا، حتي ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدينا .
وَلْنعلَم أن الكلمة أمانة وتَبِعاتها من أعظم وأَجَلّ التَّبِعات، ونظراً لِعِظَمِ مسئولية الكلمة قال الله تعالى ( ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقيبٌ عَتِيدٌ ) (2) . وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَة مِن رِضْوان اللهِ تعالى ما كان يظن أنْ تَبْلُغَ ما بَلَغتْ يكتب اللهُ له بها رضوانه إلى يوم يَلْقاه، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّم بالكَلِمَة مِن سَخَطِ اللهِ ما يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللهُ لَه بها سَخَطَه إلي يوم يَلْقاه )(3). فيجب أن يكون كلامُنا وأفعالُنا ومعاملاتُنا وأسماؤنا موافقة لشرع الله سبحانه وتعالي (4)


---------------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة النور : 15                                                                  
(2) سورة ق : 18
(3) رواه مالك وأحمد والترمذي وغيرهم رحمهم الله تعالى

(4) احذر أقوال وأفعال واعتقادات خاطئة ( المقدمة ) الشيخ د / طلعت زهران