الخميس، 1 أغسطس 2013

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا



النداء التاسع والثمانون – قال تعالى : 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
                                                                                     سورة التَّحْرِيم : 8
ذُكِرَتْ التَوْبَة بمشتقاتها فى القرآن الكريم فى نحو سَبْعٍ وأربَعِينَ مَوْضِعاً.
التَّوْب : ترك الذنب على أجمل الوجوه وهو أبلغ وجوه الاعتذار فإن الاعتذار على ثلاثة أوْجُه : إما أن يقول المُعْتَذِر لَمْ أفْعَل، أو يقول فَعَلْتُ لأجْل كَذا، أو فَعَلْتُ وقَد أَقْلَعْتُ ولا رابِع لذلك وهذا الأخير هو التَّوْبَة.
والتَّوْبَة فى الشَّرْع ترك الذنب لِقُبْحِه والنَّدَم على ما فَرط منه والعَزِيمَة على ترك المُعاوَدَة وتدارُك ما أمْكَنَه أن يُتَدارَك مِن الأعمال بالإعادة، فَمَتى اجْتَمَعَتْ هذه الأربع فقد كَمَّلَ شرائِطَ التوبة . وتاب إلى الله تَذَكَّرَ ما يقتضِى الإنابَة نحو ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيُّه المؤمنون - أفَلا يَتُوبونَ إلى الله  - ثَمَّ تاب اللهُ عَلَيْهِم ) أى قَبِلَ تَوْبَتَه منهم : ( لقد تاب اللهُ على النبى والمُهاجِرين – ثُمَّ تاب عليهم لِيَتُوبُوا ). والتائب يُقال لِباذِل وَلِقابِل التوبة. فالعبد التائب إلى الله والله تائب على عَبْدِه، والتَّواب العبد الكَثير التوبة وذلك بتركه كل وقت بَعْض الذنوب على الترتيب حتى يَصِير تارِكاً لِجَميعه، وقد يُقال لله ذلك لِكَثْرَة قَبُوله توبَة العباد حالاً بعد حالٍ. وقوله ( وَمَن تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فإنَّهُ يَتُوب إلى اللهِ مَتابا ) أى التوبة التَّامَّة وهو الجمع بين تَرْكِ القَبيح وتَحَرّى الجَمِيل : ( عليه تَوَكَّلْت وإليه مَتاب – إنَّهُ هو التَّوَّاب الرَّحِيم )(1)

قال الشيخ أبو بكر الجزائرى فى تفسير الآية :

هذا هو النداء الثانى الذى ينادِى فيه اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنين ( أى فى سورة التحريم ) يأمرهم فيه بالتوبة العاجِلَة النَّصُوح التى لا يَعُود صاحِبها إلى الذنب كما لا يعود اللَّبَنُ إلى الضَّرْع، ويبشرهم ويَعِدُهُم بتكفير سيئاتهم، ويبشرهم بالجَنَّة دار النَّعِيم المُقِيم فيقول ( عَسَى (2) رَبُّكُم أن يُكَّفِّر عَنكم سيئاتكم وَيُدْخِلَكُم جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تحتها الأنهارُ .... ) أى بعد ذلك يوم لا يُخْزِى اللهُ النبىَ والذين آمَنُوا معه بإدخالهم الجنة ( نُورُهُم يَسْعَى بين أيديهم ) أى : وهُم مُجْتازُونَ الصِّراط يَسْألُونَ رَبَّهُم أن
-----------------------------------------------------------------------------------------
 (1) المفردات فى غريب القرآن - الراغب الأصفهانى ص83           
 (2) عَسَى مِن الله واجِبَة ويشهد لهذا قول النبى ( التائب مِن الذنب كَمَن لا ذَنْبَ لَه )

يُبْقِى لَهُم نورَهم لا يقطعه عنهم حتى يجتازوا الصراط وينجون مِن السقوط فى جهنم كما يسألونه أن يغفر ذنوبهم التى قد يَرِدُون بها إلى النار بعد اجتياز الصراط. وقولهم : إنك على كل شئ قدير هذا تَوّسُّل منهم لِقَبُول دُعائهم حيث تَوَسَّلُوا بِصِفَة القُوَّة والقُدْرَة لله تعالى فقالوا : إنك على كل شئ قدير فأتْمِمْ لنا نُورَنا واغْفِر لنا (1)
والتوبة مِن الذنوب بالرجوع إلى علام الغُيُوب وغَفَّار الذنوب مَبْدأ طَريق السَّالِكِين ورأس مال الفائزين وأول أقدام المُريدين ومفتاح اسْتِقامَة المائلين ومَطْلع الاصْطِفاء والاجتِباء للمُقَرَّبين. ومنزل التوبة أول المنازل وأوسطها وآخِرها. فلا يفارقه العبد السالك ولا يزال فيه إلى المَمات وإن ارْتَحَل إلى مَنزل آخَر ارتَحَل به واستصحبه معه ونزل به. فالتوبة هى بداية الطريق ونِهايته وقد قال تعالى ( وَتُوبُوا إلى اللهِ جَمِيعاً أيُّهَ المُؤْمِنُونَ ... )(2) وهذه الآية فى سورة مَدَنِيَّة خاطَبَ الله بها أهلَ الإيمان وخِيار خَلْقِه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم، ثُمَّ عَلَّقَ الفلاحَ بالتوبة وأتى بِكلمة ( لَعَلَّ ) إيذاناً بأنكم إذا تُبْتُم كنتم على رَجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاحَ إلا التَّائِبُونَ جَعَلَنا اللهُ منهم وقال تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأولئك هم الظَّالِمُونَ )(3) فَقَسَّمَ اللهُ تعالى العباد إلى تائب وظالِم وليس ثَمَّ قِسْم ثالِث، وأوقَع اسم الظُّلْم على مِن لَم يَتُب ولا أَظْلَمَ منه لِجَهْلِه بِرَبِّه وبحقه وبعيب نفسه وآفات عَمَله وقد قال صلى الله عليه وسلم ( يا أيُّها النَّاسُ تُوبُوا إلى رَبِّكُم فَوَالله إنِّى لأتُوبُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فى اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّة )(4) وهو أعلم الخَلْق بالله عز وجل. والتوبة هى رجوع العبد إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين.

شرائط التوبة :

إذا كان الذنب فى حق الله عز وجل فشرائط التوبة ثلاثة هى النَّدَم والإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العودة. فأما الندم فإنه لا تتحقق التوبة إلا به لقوله صلى الله عليه وسلم ( النَّدَم تَوْبَة )(5) إذ مَن لَم يَندَم على القبيح فذلك دليل رِضاه به وإصراره عليه. وأما الإقلاع عن الذنب فتستحيل التوبة مع مباشَرَة الذنب. والشرط الثالث ك هو العزم على عدم العودة ويعتمد أساساً على إخلاص هذا العزم والصدق فيه.
أما إذا كان الذنب مُتَضَمِّناً لِحَقِّ آدَمِىّ فَعَلَى التائب أن يُصْلِحَ ما أفْسَدَ أو يسترضِى مَن أخْطأَ فى حقِّه لقوله صلى الله عليه وسلم ( مَن كانَ لأخِيه عندَه مَظْلَمَة مِن عِرْضٍ أو مالٍ فَلْيَتَحَلّله اليَوْمَ، قَبْلَ أن يُؤخَذ منه يوم لا دِينار ولا دِرْهََم، فإن كان لَه عَمَل صالِح، أُخِذَ مِنه بِقَدْر مَظْلَمَته وإن لَم يَكُن لَه
------------------------------------------------------------------------------------------
(1) أيسر التفاسير – الجزائرى ج2ص 1651    
(2) سورة النُّوُر : 31                                                                (3) سورة الحُجُرات : 11     
(4) رواه أحمد ومسلم رحمهما الله تعالى عن الأغَرّ المزنى – ص . ج رقم 7881  
(5) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم رحمهم الله تعالى عن ابن مسعود رضى الله عنه – ص . ج رقم 6802                     

عَمَل أُخِذَ مِن سَيّئات صاحِبه فَجُعِلَتْ عَلَيْه )(1). فهذا الذنب الذى يتضمن حَقَّيْنِ : حق الله، وحق الآدَمِىّ، فالتوبة منه بتحلل الآدمى لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه.

 مسألة :

إذا تاب العبد مِن الذنب، هل يَرْجِع إلى ما كان عليه قبل الذنب مِن الدَّرَجَة التى حَطَّه عنها الذنب أو لا يرجع إليها ؟؟؟
قالت طائفة : يرجع إلى درجته لأن التوبة تَجُبُّ الذنب بالكُلِّيَة وَتُصَيِّره كأن لَم يَكُن.
وقالت أُخْرَى : لا يعود إلى درجته وحاله لأنه لَم يكن فى وُقُوف وإنما كان فى صعود فبالذنب صار فى هبوط، فإذا تاب نقص منه ذلك القدر الذى كان مستعدا به للتَّرَقِّى.
قال شيخُ الإسلام ابنُ تَيْمِيَة رحمه الله تعالى : (والصحيح أن مِن التائبين مَن لا يَعود إلى دَرَجَته ومنهم مَن يعود إلى أعلى فَيَصِير خَيْراً مِمَّا كان عليه قبل الذنب وكان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخَطِيئَة ) ا.هــ

التَّوْبَة النَّصُوح :

قال تعالى ( يا أيها الذين ءامَنُوا تُوبوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً ... )(2) وعن أبى موسى الأشْعَرِىّ رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إنَّ اللهَ تعالى يَبْسُطُ يَدَهُ لِيَتُوبَ مُسِيئُ النَّهار ويَبْسُطُ يَدَهُ لِيَتُوبَ مُسِيئُ الليْل حتى تطلع الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها )(3). وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مَن تابَ قَبْلَ أن تَطْلعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبها تابَ اللهُ عليه)(4). وعن أبى عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ ما لَمْ يُغَرْغِر )(5) والغَرْغَرَة هى بُلُوغ الرُّوح إلى الحُلْقُوم . والنُّصْح فى التوبة هو تخليصها من كل غِشٍّ ونَقْصٍ وفساد.
قال الحَسَن البَصْرِىّ رحمه الله تعالى : هى أن يكون العبد نادِما على ما مضى مُجْمِعاً على أن لا يعود فيه. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى : ( توبة نَصُوحا ) تَنْصَحُونَ بها أنفسكم.
----------------------------------------------------------------------------------------
(1) رواه أحمد والبخارى رحمهما الله تعالى عن أبى هريرة رضى الله عنه – ص . ج رقم 6511
(2) سورة التحريم : 8                                                    (3) رواه مسلم رحمه الله تعالى.
(4) رواه مسلم رحمه الله تعالى.

(5) رواه أحمد والترمذى وابن ماجه رحمهم الله تعالى وحسنه الألبانى رحمه الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق