الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ




النداء السادس والأربعون – قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)

                                                                              سورة الأنفال : 24 ، 25

أصل الفَتْن : إدخالُ الذَّهَبِ النارَ لتظهر جودته من رداءته واسْتُعْمِلَ فى إدخال الإنسان النارَ قال ( يوم هم على النار يفتنون – ذوقوا فتنتكم ) أى عذابكم وتارة يُسَمُّونَ ما يحصل عنه العذاب فيستعمل فبه نحو قوله تعالى ( ألا فى الفتنة سَقَطُوا ) وتارة فى الاختبار نحو قوله تعالى ( وفتناك فُتُوناً ) وجُعِلَتْ الفتنة كالبلاء فى أنهما يستعملان فيما يُدْفَع  إليه الإنسان مِن شِدَّةٍ ورَخاء وَهُما فى الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا، وقد قال فيهما ( ونَبْلُوكُم بالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَة ) وقال فى الشدة ( إنما نحن فتنة – والفتنة أشد من القتل – وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) وقال : ( ومنهم مَن يقول ائْذَن لى ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا ) أى يقول لا تَبْلُنِى ولا تعذبنى، وهم بقولهم ذلك وقعوا فى البَلِيَّة والعذاب. وقال ( فما آمَنَ لِمُوسَى إلا ذُرِّيَّةٌ مِن قَوْمِه على خَوْفٍ مِن فِرْعَوْنَ وملائِهِم أن يَفْتِنَهُم ) أى يبتليهم ويعذبهمن وقال ( واحْذَرْهُم أن يفتنوك – وإن كادوا لَيَفْتِنُونَكَ ) أى : يوقعونك فى بَلِيَّة وشِدَّة فى صرفهم إياك عمَّا أُوحِىَ إليكن وقوله ( فَتَنْتُم أنفسَكم ) أى أوقعتموها فى بلية وعذاب. وعلى هذا قوله ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )
والفتنة من الأفعال التى تكون من الله تعالى ومن العبد كالبلية والمصيبة والقتل والعذاب وغير ذلك من الأفعال الكريهة، ومتى كان من الله يكون على وجه الحِكْمَة ومتى كان من الإنسان بغير أمر من الله يكون بضد ذلك ولهذا يذم اللهُ الإنسانَ بأنواع من الفتنة فى كل مكان نحو ( والقتنة أشد من القتل – إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات )(1)
قال الشيخ أبو بكر الجزائرى :

هذا النداء الثالث ( أى فى سورة الأنفال ) بالكرامة للمؤمنين يشرفهم الرب بندائه ليكرمهم بما أمرهم به أو ينهاهم عنه تربيةً لهم وإعداداً لهم لسعادة الدارين وكرامتهما فيقول ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لِما يُحْييكم ) وهو بمعنى النداء الأول ( أطيعوا الله ورسوله ).
------------------------------------------------------------------------------------------
(1) المفردات فى غريب القرآن – الراغب الأصفهانى ص374

وقوله ( لِما يُحْييكم )(1) إشعار بأن أوامر الله تعالى كنواهيه لا تخلوا أبدا مما يُحْي المؤمنين (2) أو يزيد فى حياتهم أو يحفظها عليهم، لذا وجب أن يطاع الله ورسوله ما أمكنت طاعتهما، وقوله ( واعلموا أن الله يَحُولُ بين المَرْءِ وقلبه ) تنبيه عظيم للمؤمنين إذا سَنَحَتْ لهم الفرصة للخير ينبغى أن يَفْتَرِصُوها قبل الفوات لا سِيَّما إذا كانت دعوة من الله ورسوله؛ لأنه تعالى قادر على أن يحول بين المرء وما يشتهى وبين المرء وقلبه (3) فيقلب القلب ويوجهه إلى وِجْهَة أخرى فيكره فيها الخير ويرغب فى الشر، وقوله ( وأنه إليه تحشرون ) فالذى يعلم أن سَيُحْشَر رغم أنفه إلى الله تعالى كيف يسوغ له عقله أن يسمع نداءه يأمر فيه أو ينهاه فيعرض عنه (4)

قال البغوى رحمه الله تعالى :

( لما يُحْييكُم ) أى ما يحييكم. قال السُّدِّىُّ : هو الإيمان، لأن الكافر مَيِّت فيحيا بالإيمان، وقال قتادة : هو القرآن في الحياة وبه النجاة والعِصْمَة فى الدارين. وقال مُجاهِد : هو الحَقّ، وقال ابنُ إسْحاق : هو الجهاد أعزكم الله به بعد الذل، وقال القتيبى : بل الشهادة، قال تعالى ( بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون ) وَرُوِّينا أن النبى صلى الله عليه وسلم مر على أُبَىّ بن كَعْب رضى الله عنه وهو يصلى فدعاه فعجل أُبَى فى صلاته، ثم جاء، فقال رسول الله ( ما منعك أن تُجِيبنى إذ دعوتك ؟ قال : كنت فى الصلاة، قال ( أليس يقول الله عز وجل ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ؟ فقال : لا جَرَمَ يا رسول الله، لا تَدْعُنِى إلا أجبت وإن كنتُ مُصَلِّياً.(5)(6)

-----------------------------------------------------------------------------------------
(1) (يُحْييكًم ) أصلها يُحْيِيُكُم ) بضم الياء الثانية إلا أن حركتها حذفت فسكنت تخفيفا.
(2) فى الآية دليل على أن الكفر والجهل موت معنوى، إذا بالإيمان والعلم تكون الحياة وبضدهما يكون الممات.
(3) كان من دعائه صلى الله عليه وسلم ( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك ) وقوله ( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ).
(4) أيسر التفاسير – الجزائرى ص 514
(5) أخرجه الطبرانى فى التفسير، وأخرجه بنحوه الترمذى فى فضائل الأعمال، وقال حديث حسن صحيح، والإمام أحمد فى المسند.
(6) مختصر تفسير البغوى – د / عبد الله بن أحمد على الزيد ص347

وقوله ( واتقوا فتنة لا تصيبن(1) الذين ظَلَمُوا منكم خاصة(2)) تحذير آخر من عظيم للمؤمنين من أن يتركوا طاعة الله رسوله ويتركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فينتشر الشر وَيَعُمُّ الفساد، وينزل البلاء فيعم الصالِح والطالِح، والبارَّ والفاجِر، والظالِم والعادِل. وقوله ( واعلموا أن الله شديد العقاب ) وهو تأكيد للتحذير بكونه تعالى إذاعاقب بالذنب والمعصية فعقابه قاسٍ شديد لا يُطاق فَلْيَحْذَرْ المؤمنون من ذلك بلزوم طاعة الله ورسوله (3)
قال المُفَسِّرُونَ : نزلت هذه الآية فى أصحاب رسول الله ومعناه : اتقوا فتنة تصيب الظالم وغير الظالم. قال الحسن : نزلت فى عَلِىّ، وعمََّار، وطلحة، والزُّبَيْر، رضى الله عنهم. قال الزبير : لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أُرانا مِن أهلها، فإذا نحن المَعْنِيُّونَ بها، يعنى ما كان يوم الجَمَل. وقال السدى : ومُقاتِل والضَّحَّاك وقَتادَة : هذا فى قوم مخصوصين من أصحاب رسول الله أصابتهم الفتنة يوم الجمل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ستكون فِتَنٌ، القاعِدُ فيها خير مِن القائم، والقائم خير مِن الماشى، والماشى فيها خير مِن السَّاعِى، مَن تَشَرَّفَ لها تستشرفه، فَمَن وجد مَلْجَأً أو مُعاذاً فَلْيَعُذ به )(4)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم – وإن كان الخِطاب لهم – هو الصحيح، ويدل عليه الأحاديث الواردة فى التحذير مِن الفتن (5)
------------------------------------------------------------------------------------------
(1) قال ابن عباس رضى الله عنه فى هذه الآية : أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يُقِرُّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب، وفى صحيح مسلم عن زينب بنت جحش رضى الله عنها أنها سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال ( نعم إذا كثر الخبث ).
(2) إعراب هذه الجملة مُشْكَل، يكتفى بعرض صورتين : الأولى : إنها كقوله تعالى ( ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده ) آى : إن تدخلوا لا يحطمنكم، فيكون معنى الآية : إن تتقوا ..... لا تصيبن، فدخلت نون التوكيد لما فى التركيب من معنى الجزاء، والثانية : تكون على حذف القول أى : اتقوا فتنة مقول فيها : لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، كقول الشاعر :
حتى إذا جَنَّ الظلام واختلَط ....... جاؤوا بمذقٍ هل رأيت الذئب قَط 
أى مقول فيها : هل رأيت الذئب قط، فقوله ( فتنة ) موصوف بجملة مقول فيها : لا تُصيبنَّ.
(3) أيسر التفاسير – الجزائرى ج1 ص514
(4) أخرجه البخارى رحمه الله فى الفِتَن، وفى الأنبياء، وفى المَناقِب، ومسلم رحمه الله فى الفِتَن رقم 2886.
(5) تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى ج2ص999


هداية الآيتين الكريمتين :

1- وجوب الاستجابة لنداء الله ورسوله (1) بفعل الأمر وترك النهى لِما فى ذلك من حياة الفرد المسلم.
2- تعيين اغتنام فرص الخير قبل فواتها، فَمَتى سَنَحَتْ للمؤمن تَعَيَّنَ اغْتِنامها.
3- وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر اتِّقاءً للفتن العامة التى يهلك فيها العادل والظالم.
4- أن القلب هو أمير الأعضاء، وبتغيره يتغير حال العبد، وأن القلوب بين يدى الله تبارك وتعالى.
  
------------------------------------------------------------------------------------------

(1) روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبى سعيد بن المعلى رضى الله عنه قال : كنت أصلى فى المسجد فدعانى رسول الله فلم أجبه، ثم أتيته فقلت : يا رسول الله إنى كنت أصلى، فقال ( أَلَم يَقُل اللهُ عز وجل ) ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) وذكر الحديث . قال العلماء : هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إن أُتِى به فى الصلاة لا تبطل.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ




النِّدَاء السابِع والعشرون – قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)   

                                                                          سورة النساء : 144 ، 145

الوَلاء والتَّوَالِى : أن يحصل شيئان فصاعِدا حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويُسْتَعار ذلك للقرب مِن حيث المكانن ومِن حيث النسبة ومن حيث الدِّين، ومن حيث الصَّدَاقة والنُّصْرَة والاعتقاد ( والوِلايَة ) النُّصْرَة و ( الوَلايَة ) تَوَلِّى الأمْر .                                                            
( و الوَلِى والمَوْلَى ) يستعملان فى ذلك كل واحد منهما ، يقال فى معنى الفاعل أى المُوَالِى ، وفى معنى المفعول أى المُوَالَى، يقال للمؤمِن هو وَلِىُّ اللهِ عز وجل ولم يُرَد مَوْلاه، وقد يقال ( الله تعالى وَلِىُّ المؤمنين وَمَوْلاهم ) و ( الوَالِى ) بمعنى الوَلِىّ، ونَفَى اللهُ الوِلايَة بين المؤمنين والكافرين فى غير آية ( يا أيها الذين ءامَنُوا لا تتخذوا اليهود ) إلى قوله ( وَمَن يَتَوَلَّهُم منكم فإنه منهم ) وجعل بين الكافرين والشَّياطين مُوالاة فى الدُّنْيا ونفى بينهم الموالاة فى الآخِرَة، قال تعالى فى الموالاة بينهم فى الدنيا ( والمنافقون والمنافقات بعضهم مِن بعض ) وقال ( إنا جَعَلْنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) فكما جعل بينهم وبين الشيطان موالاة جعل للشيطان فى الدنيا عليهم سُلْطَانا فقال ( إنما سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَه ) ونفى الموالاة بينهم فى الآخِرَة فقال فى موالاة الكفار بعضهم بعضا ( يوم لا يُغْنِى مَوْلَىً عن مَوْلَىً شيئاً ) وقوله ( ثُمَّ يوم القيامة يَكْفُر بَعْضُكُم بِبَعْض ) و ( والمُوالاة ) بين الشَّيْئَيْن المُتَابَعَة (1)
و ( الوَلِىُّ ) ضد العَدُو ويقال منه ( تَوَلَّاه ) وكل مَن وَلِىَ أمرَ وَاحِدٍ فهو ( وَلِيُّه ) و (المَوْلَى ) المُعْتِق والمُعْتق وابن العمّ والنَّاصِر والجار والحَلِيف و ( الموالاة ) ضِدّ المُعَاداة ( والوِلاية ) بِالكَسْر السُّلْطان وقال سِيبَوَيْه : الولاية بالفَتْح المَصْدَر وبالكسر الاسم(2) والسُّلْطان الحُجَّة الواضِحَة

----------------------------------------------------------------------------------------
(1) المفردات فى غريب القرآن – الراغب الأصفهانى                          (2) مُخْتار الصِّحَاح – الرازى

قال الشيخ أبو بكر الجزائرى :

ومعنى اتخاذهم أولياء موادتهم ومناصرتهم والثقة فيهم والركون إليهم والتعاون معهم ، ولَمَّا كان الأمر ذا خُطُورَة كامِلَة عليهم هَدَّدَهم بقوله ( أتُرِيدون أن تَجْعَلوا لله عليكم سلطانا مُبينا ) فيتخلى عنكم ويسلط عليكم أعداءه الكافرين فيستأصلوكم أو يقهروكم ويَسْتَذِلُّوكم ويتحكموا فيكم، ثم حذَّرَهم مِن النفاق أن يتسرب إلى قلوبكم فأسمعهم حُكْمَه العادل فى المنافقين الذين هم رءوس الفتنة بينهم فقال ( إن المنافقين فى الدَّرْكِ (1) الأسفل من النار ) إلا الذين تابوا إلى ربهم فآمَنُوا به وَبِرَسوله صلى الله عليه وسلم حق الإيمان وأصلحوا أعمالهم ونَفضُوا أيديهم مِن أيدى الكافرين وأخْلَصوا دِينَهم لله فَلَم يَبْقوا يُراءون أَحَداً بأعمالهم فأولئك هم الذين ارتَفَعوا إلى هذا المُسْتَوَى مِن الكمال هم مع المؤمنين جزاؤهم واحد، وسوف يُؤتِى اللهُ المؤمنين أَجْراً عظيماً؛ وهو كرامة الدنيا وسعادة الآخِرَة (2)

قال ابن كثير – رحمه الله تعالى  - فى تفسير هذه الآية :
يَنْهَى اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء مِن دون المؤمنين ، يعنى مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المَوَدَّة إليهم ، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى ( لا يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أولياءَ مِن دون المؤمنين ) ولهذا قال ها هنا ( أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ) ؟ أى حُجَّة عليكم فى عقوبته إياكم، قال ابن أَبِى حاتم عن ابن عباس فى قوله ( سلطانا مبينا ) : كل سلطان فى القرآن حُجَّة ، وهذا إسناد صحيح ، ثم أخبر تعالى ( إن المنافقين فى الدرك الأسفل مِن النار ) أى يوم القيامة جزاء على كفرهم الغليظ ، قال ابن عباس رضى الله عنهما : أى فى أسفل النار، وقال غيره ( دَرَكات ) كما أن الجنة ( دَرَجات )، وقال سفيان الثَّوْرِى ( إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار ) قال فى توابيت تُرْتَج عليهم، وعن أبى هريرة قال ( الدرك الأسفل ) بيوت لها أبواب تُطْبَق عليهم فتوقد مِن تَحْتِهم وَمِن فَوْقِهِم ، وفى قوله ( إلا الذين تابوا ... ) أى بَدَّلُوا الرياء بالإخلاص فينفعهم العمل الصالح وإنْ قَلَّ ( فأولئك مع المؤمنين ) أى فى زُمْرَتِهم يوم القيامة ( وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عَظيما ) ثم قال تعالى مُخْبِراً عن غِناه عَمَّا سِواهُ وأنه يُعَذِّب العِبادَ بذنوبهم ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمَنْتُم ) أى أصلحتم العمل وآمَنتم بالله ورسوله ( وكان الله شاكِراً عليما ) أى مَن شَكَر شكر له، وَمَن آمَنَ قَلْبُه به عَلَّمَه وجازاه على ذلك أَوْفَى الجزاء (3) 
----------------------------------------------------------------------------------------
(1) الدَّرك بإسكان الراء وفَتحها . والنار سَبْع دَرَكات . يقال فيما تَعَالَى وارتفع دَرَجَة ، وفيما سَفُل ونَزَل دَرَكَة، والدَّرَكات هى كالتالى : جَهَنَّم، ثم لَظَى، ثم الحُطَمَة، ثم السَّعير، ثم سَقَر، ثم الجَحِيم، ثم الهَاوِيَة، وقد تُسَمَّى جميعاً باسم الطبقة الأُوُلَى ( أيسر التفاسير – الجزائرى )

(2) أيسر التفاسير – الجزائرى ج1ص307                         (3) تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى

الخميس، 1 أغسطس 2013

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا



النداء التاسع والثمانون – قال تعالى : 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
                                                                                     سورة التَّحْرِيم : 8
ذُكِرَتْ التَوْبَة بمشتقاتها فى القرآن الكريم فى نحو سَبْعٍ وأربَعِينَ مَوْضِعاً.
التَّوْب : ترك الذنب على أجمل الوجوه وهو أبلغ وجوه الاعتذار فإن الاعتذار على ثلاثة أوْجُه : إما أن يقول المُعْتَذِر لَمْ أفْعَل، أو يقول فَعَلْتُ لأجْل كَذا، أو فَعَلْتُ وقَد أَقْلَعْتُ ولا رابِع لذلك وهذا الأخير هو التَّوْبَة.
والتَّوْبَة فى الشَّرْع ترك الذنب لِقُبْحِه والنَّدَم على ما فَرط منه والعَزِيمَة على ترك المُعاوَدَة وتدارُك ما أمْكَنَه أن يُتَدارَك مِن الأعمال بالإعادة، فَمَتى اجْتَمَعَتْ هذه الأربع فقد كَمَّلَ شرائِطَ التوبة . وتاب إلى الله تَذَكَّرَ ما يقتضِى الإنابَة نحو ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيُّه المؤمنون - أفَلا يَتُوبونَ إلى الله  - ثَمَّ تاب اللهُ عَلَيْهِم ) أى قَبِلَ تَوْبَتَه منهم : ( لقد تاب اللهُ على النبى والمُهاجِرين – ثُمَّ تاب عليهم لِيَتُوبُوا ). والتائب يُقال لِباذِل وَلِقابِل التوبة. فالعبد التائب إلى الله والله تائب على عَبْدِه، والتَّواب العبد الكَثير التوبة وذلك بتركه كل وقت بَعْض الذنوب على الترتيب حتى يَصِير تارِكاً لِجَميعه، وقد يُقال لله ذلك لِكَثْرَة قَبُوله توبَة العباد حالاً بعد حالٍ. وقوله ( وَمَن تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فإنَّهُ يَتُوب إلى اللهِ مَتابا ) أى التوبة التَّامَّة وهو الجمع بين تَرْكِ القَبيح وتَحَرّى الجَمِيل : ( عليه تَوَكَّلْت وإليه مَتاب – إنَّهُ هو التَّوَّاب الرَّحِيم )(1)

قال الشيخ أبو بكر الجزائرى فى تفسير الآية :

هذا هو النداء الثانى الذى ينادِى فيه اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنين ( أى فى سورة التحريم ) يأمرهم فيه بالتوبة العاجِلَة النَّصُوح التى لا يَعُود صاحِبها إلى الذنب كما لا يعود اللَّبَنُ إلى الضَّرْع، ويبشرهم ويَعِدُهُم بتكفير سيئاتهم، ويبشرهم بالجَنَّة دار النَّعِيم المُقِيم فيقول ( عَسَى (2) رَبُّكُم أن يُكَّفِّر عَنكم سيئاتكم وَيُدْخِلَكُم جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تحتها الأنهارُ .... ) أى بعد ذلك يوم لا يُخْزِى اللهُ النبىَ والذين آمَنُوا معه بإدخالهم الجنة ( نُورُهُم يَسْعَى بين أيديهم ) أى : وهُم مُجْتازُونَ الصِّراط يَسْألُونَ رَبَّهُم أن
-----------------------------------------------------------------------------------------
 (1) المفردات فى غريب القرآن - الراغب الأصفهانى ص83           
 (2) عَسَى مِن الله واجِبَة ويشهد لهذا قول النبى ( التائب مِن الذنب كَمَن لا ذَنْبَ لَه )

يُبْقِى لَهُم نورَهم لا يقطعه عنهم حتى يجتازوا الصراط وينجون مِن السقوط فى جهنم كما يسألونه أن يغفر ذنوبهم التى قد يَرِدُون بها إلى النار بعد اجتياز الصراط. وقولهم : إنك على كل شئ قدير هذا تَوّسُّل منهم لِقَبُول دُعائهم حيث تَوَسَّلُوا بِصِفَة القُوَّة والقُدْرَة لله تعالى فقالوا : إنك على كل شئ قدير فأتْمِمْ لنا نُورَنا واغْفِر لنا (1)
والتوبة مِن الذنوب بالرجوع إلى علام الغُيُوب وغَفَّار الذنوب مَبْدأ طَريق السَّالِكِين ورأس مال الفائزين وأول أقدام المُريدين ومفتاح اسْتِقامَة المائلين ومَطْلع الاصْطِفاء والاجتِباء للمُقَرَّبين. ومنزل التوبة أول المنازل وأوسطها وآخِرها. فلا يفارقه العبد السالك ولا يزال فيه إلى المَمات وإن ارْتَحَل إلى مَنزل آخَر ارتَحَل به واستصحبه معه ونزل به. فالتوبة هى بداية الطريق ونِهايته وقد قال تعالى ( وَتُوبُوا إلى اللهِ جَمِيعاً أيُّهَ المُؤْمِنُونَ ... )(2) وهذه الآية فى سورة مَدَنِيَّة خاطَبَ الله بها أهلَ الإيمان وخِيار خَلْقِه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم، ثُمَّ عَلَّقَ الفلاحَ بالتوبة وأتى بِكلمة ( لَعَلَّ ) إيذاناً بأنكم إذا تُبْتُم كنتم على رَجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاحَ إلا التَّائِبُونَ جَعَلَنا اللهُ منهم وقال تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأولئك هم الظَّالِمُونَ )(3) فَقَسَّمَ اللهُ تعالى العباد إلى تائب وظالِم وليس ثَمَّ قِسْم ثالِث، وأوقَع اسم الظُّلْم على مِن لَم يَتُب ولا أَظْلَمَ منه لِجَهْلِه بِرَبِّه وبحقه وبعيب نفسه وآفات عَمَله وقد قال صلى الله عليه وسلم ( يا أيُّها النَّاسُ تُوبُوا إلى رَبِّكُم فَوَالله إنِّى لأتُوبُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فى اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّة )(4) وهو أعلم الخَلْق بالله عز وجل. والتوبة هى رجوع العبد إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين.

شرائط التوبة :

إذا كان الذنب فى حق الله عز وجل فشرائط التوبة ثلاثة هى النَّدَم والإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العودة. فأما الندم فإنه لا تتحقق التوبة إلا به لقوله صلى الله عليه وسلم ( النَّدَم تَوْبَة )(5) إذ مَن لَم يَندَم على القبيح فذلك دليل رِضاه به وإصراره عليه. وأما الإقلاع عن الذنب فتستحيل التوبة مع مباشَرَة الذنب. والشرط الثالث ك هو العزم على عدم العودة ويعتمد أساساً على إخلاص هذا العزم والصدق فيه.
أما إذا كان الذنب مُتَضَمِّناً لِحَقِّ آدَمِىّ فَعَلَى التائب أن يُصْلِحَ ما أفْسَدَ أو يسترضِى مَن أخْطأَ فى حقِّه لقوله صلى الله عليه وسلم ( مَن كانَ لأخِيه عندَه مَظْلَمَة مِن عِرْضٍ أو مالٍ فَلْيَتَحَلّله اليَوْمَ، قَبْلَ أن يُؤخَذ منه يوم لا دِينار ولا دِرْهََم، فإن كان لَه عَمَل صالِح، أُخِذَ مِنه بِقَدْر مَظْلَمَته وإن لَم يَكُن لَه
------------------------------------------------------------------------------------------
(1) أيسر التفاسير – الجزائرى ج2ص 1651    
(2) سورة النُّوُر : 31                                                                (3) سورة الحُجُرات : 11     
(4) رواه أحمد ومسلم رحمهما الله تعالى عن الأغَرّ المزنى – ص . ج رقم 7881  
(5) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم رحمهم الله تعالى عن ابن مسعود رضى الله عنه – ص . ج رقم 6802                     

عَمَل أُخِذَ مِن سَيّئات صاحِبه فَجُعِلَتْ عَلَيْه )(1). فهذا الذنب الذى يتضمن حَقَّيْنِ : حق الله، وحق الآدَمِىّ، فالتوبة منه بتحلل الآدمى لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه.

 مسألة :

إذا تاب العبد مِن الذنب، هل يَرْجِع إلى ما كان عليه قبل الذنب مِن الدَّرَجَة التى حَطَّه عنها الذنب أو لا يرجع إليها ؟؟؟
قالت طائفة : يرجع إلى درجته لأن التوبة تَجُبُّ الذنب بالكُلِّيَة وَتُصَيِّره كأن لَم يَكُن.
وقالت أُخْرَى : لا يعود إلى درجته وحاله لأنه لَم يكن فى وُقُوف وإنما كان فى صعود فبالذنب صار فى هبوط، فإذا تاب نقص منه ذلك القدر الذى كان مستعدا به للتَّرَقِّى.
قال شيخُ الإسلام ابنُ تَيْمِيَة رحمه الله تعالى : (والصحيح أن مِن التائبين مَن لا يَعود إلى دَرَجَته ومنهم مَن يعود إلى أعلى فَيَصِير خَيْراً مِمَّا كان عليه قبل الذنب وكان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخَطِيئَة ) ا.هــ

التَّوْبَة النَّصُوح :

قال تعالى ( يا أيها الذين ءامَنُوا تُوبوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً ... )(2) وعن أبى موسى الأشْعَرِىّ رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إنَّ اللهَ تعالى يَبْسُطُ يَدَهُ لِيَتُوبَ مُسِيئُ النَّهار ويَبْسُطُ يَدَهُ لِيَتُوبَ مُسِيئُ الليْل حتى تطلع الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها )(3). وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مَن تابَ قَبْلَ أن تَطْلعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبها تابَ اللهُ عليه)(4). وعن أبى عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ ما لَمْ يُغَرْغِر )(5) والغَرْغَرَة هى بُلُوغ الرُّوح إلى الحُلْقُوم . والنُّصْح فى التوبة هو تخليصها من كل غِشٍّ ونَقْصٍ وفساد.
قال الحَسَن البَصْرِىّ رحمه الله تعالى : هى أن يكون العبد نادِما على ما مضى مُجْمِعاً على أن لا يعود فيه. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى : ( توبة نَصُوحا ) تَنْصَحُونَ بها أنفسكم.
----------------------------------------------------------------------------------------
(1) رواه أحمد والبخارى رحمهما الله تعالى عن أبى هريرة رضى الله عنه – ص . ج رقم 6511
(2) سورة التحريم : 8                                                    (3) رواه مسلم رحمه الله تعالى.
(4) رواه مسلم رحمه الله تعالى.

(5) رواه أحمد والترمذى وابن ماجه رحمهم الله تعالى وحسنه الألبانى رحمه الله تعالى.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا



النداء الثامن والثمانون – قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
                                                                                     سورة التَّحْرِيم : 6

سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة آية، وبها نداءان للمؤمنين فى القرآن الكريم بترتيب المصحف الشريف. وتسمى سورة التحريم سورة ( النَّبِىّ )
قال عَلِىّ بن أبى طالِب رضى الله عنه ومُجاهِد وقتادة : قُوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم. قال ابن العَرَبِىّ رحمه الله تعالى : هذا هو الصحيح لِما يُعْطِيه العطف الذى يَقتَضِى التَّشْرِيك بين المَعْطوف والمعطوف عليه فى معنى الفعل كقول الشاعر ( عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارِداً ) أى سَقَيْتُها ماءً بارِداً.
( قُوا أنفسكم ) الوقاية لا تتم إلا بالإيمان وصالح الأعمال بعد اجتناب الشِّرْك والمَعاصى، وهذا يتطلب العِلْم بذلك وتوطين النفس على العمل بما يعلم من ذلك فعلا لما يفعل وتَرْكا لِما يَتْرك فَلْيَأخُذ العَبْد نفسه وأهله بهذا نُصْحاً له ولَهُم حتى يَقِى نَفْسَه وَيَقِى أهْلَه (1)
قال الشيخ عبد الرحمن السعدى رحمه الله تعالى فى تفسير الآية :

أى : يا مَن مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بالإيمان قوموا بِلوازِمه وشروطه فــ ( قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً ) موصوفة بهذه الأوصاف الفَظِيعَة ووقاية الأنفس بإلْزامها أمر الله امتثالا ونهيه اجتناباً والتوبة عما يسخط اللهَ ويُوجِب العذاب، ووقاية الأهل والأولاد بتأديبهم وتعليمهم وإجبارهم على أمر الله فلا يُسْلِم العبد إلا إذا قام بأمر الله فى نفسه وفيمَن تَحت ولايته وتصرفه، ووصف اللهُ النارَ بهذه الأوصاف ليزجر عباده عن التهاون بأمره، فقال : ( وَقَودَها الناسُ والحِجارَة ) كما قال ( إنكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّم أنتُم لَها وارِدُونَ )(2). ( عليها ملائِكَة غِلاظٌ شِدادٌ ) أى : غَلِيظَة أخلاقهم شديد انتصارهم يُفْزِعُونَ بأصواتهم ويُزْعِجُونَ بِمرآهم ويُهِينُونَ أصحاب النار بقولهم ويُنَفِّذُونَ فيهم أمر الله الذى حَتَّمَ عليهم بالعذاب وأوجب عليهم شِدَّة العِقاب،( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أمَرَهُم ويفعلون ما يُؤْمَرُونَ) وهذا فيه أيضاً مَدْح للملائِكَة الكِرام وانقيادهم لأمر الله وطاعتهم له فى كل ما أمر به (3)
----------------------------------------------------------------------------------------
(1) أيسر التفاسير – الجزائرى ج2ص1651                                        (2) سورة الأنْبِياء : 98

(3) تفسير السعدى رحمه الله تعالى ص 968

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ



النداء السابع والثمانون – قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
                                                                           سورة التَّغابُن : 14 – 18
سورة التغابن مدنية وآياتها ثمانى عشرة.
هذه الآيات الكريمات نزلت (1) فى أُناسٍ كان لهم أزواج وأولاد عاقُوهُم عن الهِجْرَة والجهاد فترة من الوقت، فلما تغلبوا عليهم وهاجَرُوا ووجدوا الذين سبقوهم إلى الهجرة قد تَعَلَّمُوا وتَفَقَّهُوا فى الدِّين فتأسَّفُوا عن تخلفهم فَهَمُّوا بأزواجهم وأولادهم الذين عاقوهم عن الهجرة فترة طويلة أن تعاقبوهم بنوع مِن العِقاب مِن تجويع أو ضرب وتثريب وعتاب، فأنزل اللهُ هذه الآيات ( يا أيها الذين ءَامَنُوا إن من أزواجكم ... ) أى يا أيها المؤمنون إنَّ مِن (2) أزواجكم (3) وأولادكم أى : مِن بعضهم لا كُلَّهم إذ منهم مَن يساعد على طاعة الله ويكون عَوْناً عليها، عدوا لكم صرفكم عن طاعة الله والتزود للدار الآخرة، وقد ينازعونكم فى دينكم ودنياكم إذاً فاحذروهم أى كونوا على حَذر أن تطيعوهم فى التخلف عن فعل الخير مِن هجرة وجهاد وغيرهما وإن تعفوا وتغفروا أى عَمَّن شَغَلوكم عن طاعة الله فعاقوكم عن الهجرة والجهاد فلم تضربوهم ولم تجوعوهم ولم تُثَرِّبُوا عليهم ولم تُعاتِبُوهُم بل تطلبون العُذْرَ لمن قاموا به نَحْوَكُم يكافِئْكُم الله تعالى بِمِثْلِه فيعفو عنكم ويصفح ويغفر لكم كما عفوتم وصفحتم وغفرتم لأزواجكم وأولادكم الذين أَخَّرُوا هجرتكم وعطلوكم عن الجهاد فى سبيل الله.
-----------------------------------------------------------------------------------------
(1) قال القرطبى رحمه الله تعالى : قال ابن عباس رضى الله عنهما : نزلت فى عوف بن مالك الأشجعى بالمدينة النبوية، شكا إلى النبىَ جفاء أهله وولده. وعن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة التغابن كلها جملة واحدة إلا هؤلاء الآيات ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ....)
(2) مِن : للتبعيض إذ ما كُلُّ مَن له زوجة وولد كانوا له عدواً.
(3) الآية عامَّة فى الرِّجال والنِّساء، فكما يكون للرجل مِن امرأته وولده عدو يكون للمرأة مِن زوجها وولدها عدو، ووجب الحذر على المؤمنين، ويكون الحذر على وجهين إما لضرر فى البدن، وإما لضرر فى الدِّين.

وقوله تعالى ( إنما أموالكم وأولادكم فِتْنَة (1) والله عنده أجر عظيم ) أى : كل أموالكم وأولادكم فتنة واختبار من الله لكم هل تُحْسِنون التصرف فيهم فلا تَعْصُوا اللهَ لأجلهم، لا بترك واجب ولا بفعلِ ممنوع أو تُسِيئون التصرف فيحملكم حبهم على التفريط فى طاعة الله أو التقصير فى بعضها بترك واجب أو فعل حرام، والله عنده أجر عظيم فآثِرُوا ما عند الله على ما عندكم مِن مال وولد، إن ما عند الله باقٍ وماعندكم فانٍ فآثِرُوا الباقى على الفانى.
وقوله ( فاتقوا الله ما استطعتم )(2) هذا إحسان الله تعالى إلى عباده المؤمنين أنه لمَّا أعلَّمَهُم أن أموالهم وأولادهم فِتْنَة حَذَّرَهم أن يٌؤثِروهم على طاعة الله ورسوله عَلِمَ أن بعضَ المؤمنين سوف يزهدون فى المال والولد وأن بعضاً سوف يعانون أتعابا ومشقة شديدة فى التوفيق بين المصلحتين فأمرهم أن يتقوه فى حدود ما يُطِيقون فقط، وخير الأمور الوسط فلا يُفْرِط فى ولده وماله ولا يُفَرِّط فى عِلَّة وُجُودِه وسبب نجاته وسعادته وهى عبادة الله التى خُلِقَ لأجْلِها وعلبها مَدار نجاته من النار ودخوله الجنة.
وقوله ( واسْمَعُوا )(3) ما يدعوكم الله ورسوله إليه ( وأطيعوا وأنفقوا ) فى طاعة الله مِن أموالكم خيراً لأنفسكم مِن عدم الإنفاق فإنه شر لكم وليس خير لكم.
وقوله ( ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِه فأولئك هم المُفْلِحُونَ ) أعلمهم أن عدم الإنفاق ناتج عن شُحِّ النَّفْس، وشح النفس لا يَقِى منه إلا اللهُ فَعَلَيْكُم باللجوء إلى الله تعالى لِيَحْفَظَكُم مِن شُح نفوسكم فادعوه وتوسلوا إليه بالإنفاق قليلا قليلا حتى يحصل الشِّفاء مِن مرض الشُّح الذى هو البُخْل مع الحِرْص الشديد على جمع المال والحفاظ عليه ومَن شُفِى مِن مَرَض الشح أفْلَحَ وأصبح فى عِداد المفلحين الفائزين بالجنة بعد النجاة مِن النار.
وقوله ( إن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاًَ حَسَناً يُضاعِفه لكم ويغفر لكم ) هذا الترغيب عظيم مِن الله تعالى للمؤمنين فى النفقة فى سبيله إذ سَمَّاها قَرْضاً والقَرْض مَرْدُود وَوَعَدَ بمضاعفتها وزيادة أخرى أن يغفر لهم بذلك ذنوبهم، واشتراط الحُسْن للقرض اشتراط معقول وهو أن يكون المال الذى اقرض الله حلالاً لا حَراماً، وأن تكون النفس طيبة به لا كارهة له، وهذا مِن باب النصح للمؤمنين ليحصلوا
-----------------------------------------------------------------------------------------
(1) فِتْنَة : أى بلاء واختبار يحملكم على كسب المُحَرَّم ومنه حق الله تعالى فلا تطيعوهم فى معصية الله تعالى، رُوِىَ عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه كان يقول : لا تقولوا اللهم اعصمنى من الفتن فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ولكن ليقل : اللهم إنى أعوذ بك مِن مُضِلات الفِتَن.
(2) هل هذه الآية مُخَصِّصَة لآية آل عمران ( اتقوا الله حق تقاته ) ؟ هذا هوالظاهر، إذ مِن غير المُمْكِن أن يُتَّقَى اللهَ حق تقاته. أى : تقواه الحَقَّة. فلو أن العبد ذاب ذَوَباناُ مِن خشية الله ما اتقى اللهَ حق تقاته.
(3) قال القرطبى رحمه الله تعالى : اسمعوا ما توعَظُون به وأطيعوا فيما نُؤْمَرُون به وتُنْهَوْنَ عنه، والآية أصل فى السمع والطاعة فى بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم والطاعة لأولى الأمر.

على الأجر مضاعَفا. وقوله تعالى ( والله شكور حليم ) ترغيب أيضا لهم فى الإنفاق لأن الشكور معناه يُعْطَى القليل فَيُكافِئ، والحَلِيم الذى لا يُعاجِل بالعقوبة. ومثله يقرض القرض الحَسَن. وقوله ( عالِم الغيب والشهادة ) ترغيب أيضا فى الإنفاق إذ أعلَمَهم أنه لا يَغِيب عنه مِن أمورهم شئ، يعلم الخَفِىّ منها والعَلَنِىّ، وما غاب عنهم فلم يَرَوْه وما ظهر لهم فشهدوه فّذُو العِلم بهذه المَثابَة معاملته مضمونة لا يخاف ضياعها ولا نِسْيانها ( العزيز الحكيم )  أى : العزيز الانتقام مِن أعدائه، الحكيم فى إجراء أحكامه وتدبير شؤون عباده.
هداية الآيات الكريمات :
1- بيان أن مِن بعض الزوجات والأولاد عَدُوَّاً فَعَلَى المؤمن أن يحذر ذلك ليسلم من شرهم.
2- الترغيب فى العفو والصفح والمغفرة على من أساء أو ظلم.
3- التحذير من فتنة المال والولد ووجوب التيقظ حتى لا يهلك المرء بولده وماله.
4- وجوب تقوى الله بفعل الواجبات وترك المَنْهِيَّات فى حدود الطاقة البشرية.
5- الترغيب فى الإنفاق فى سبيل الله والتحذير مِن الشُّح فإنه داء خَطير (1)


-----------------------------------------------------------------------------------------

(1) أيسر التفاسير – الجزائرى ج2ص1641