الجمعة، 17 مايو 2013

فَضْل العِلمِ والعُلَماء


فضل العِلم والعُلَماء
فصل فى معنى العِلْم وفضله

العِلْم إدراك الشئ على حقيقته وذلك ضَرْبان : أحدهما إدراك ذات الشئ، والثانى الحُكْم على الشئ بوجود شئ هو موجود له أو نفى شئ هو منفى عنه فالأول هو المتعدى إلى مفعول واحد نحو ( لا تعلمونهم الله يعلمهم )، والثانى المتعدى إلى مفعولين نحو قوله ( فإن علمتموهن مؤمنات ). والعلم من وَجْه ضربان : نَظَرِىّ وعَمَلِىّ. فالنَظَرِىّ ما إذا عُلِمَ فقد كَمُلَ نحو العلم بموجودات العالَم، والعَمَلِى ما لا يتم إلا بأن يُعْمَل، كالعلم بالعبادات . ومِن وَجْهٍ آخَر ضَربان : عَقْلِىّ و سَمْعِىّ وأعْلَمْتُه وعَلَّمْتُه فى الأصل واحد إلا أن الإعلام اختص بما كان بإخبار سريع والتَّعَلُّم اختص بما يكون بتكرير وتكثير حتى يحصل منه أثر فى نفس المتعلم، قال بعضهم : التعليم تنبيه النَّفْس لتصور المعانى. والتَّعَلُّم تنبيه النفس لتصور ذلك، وربما استعمل فى معنى الإعلام إذا كان فيه تكرير نحو ( أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينكم ) فَمِنَ التعلم قوله ( الرَّحْمنُ عَلَّمَ القُرْآنَ – عَلَّمَ بِالقَلَم – وعُلِّمْتُم ما لم تَعْلَمُوا – عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْر ) ونحو ذلك وقوله ( وعَلَّمَ آدَمَ الأسماءَ كُلَّها ) فتعليمه الأسماء هو أن جعل له قوة بها نَطَقَ ووَضَعَ أسماء الأشياء وذلك بإلقائه فى رُوُعِه، وكتعليمه الحيوانات كل واحد منها فِعلا يتعاطاه وصَوْتا يَتَحَرَّاه،. قال ( وَعَلَّمْناه مِن لَدُنَّا عِلما ) ( قال له موسى هل أتبعك على أن تُعَلِّمَنِ مما عُلِّمْتَ رُشْدا ) قيل عُنِىَ العلم الخاص الخَفِى على البشر الذى يرونه ما لم يعرفهم الله منكرا بدلالة ما رآه موسى لما تبعه فأنكره حتى عَرَّفه سببه، قيل وهذا العلم فى قوله ( قال الذى عنده لعم من الكتاب ) فتنبيه من الله تعالى على تفاوت منازل العلوم وتفاوت أربابها(1)
لذا اهتم الإسلام بطلب العلم من أجل معرفة التكاليف الشرعية وما خُلِقَ الإنسان مِن أجله. قال تعالى ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك )(2)، وقال سبحانه ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )(3) ) ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم ( طلب العلم فريضة على كل مسلم وإنَّ طالبَ العلم يستغفر له كل شئ حتى الحيتان فى البحر )(4).
----------------------------------------------------------------------------------------
(1) المفردات للراغب الأصْفهانى ص347                                   (2) سورة محمد : 19
(3) سورة النحل : 43    
(4) رواه ابن عبد البر فى ( العلم ) عن أنس رضى الله عنه - صحيح الجامع رقم ( 3914 )

وسُئِلَ الفُضَيْلُ بن عياض عن هذا الحديث ( طلب العلم فريضة ) فقال : كل عمل كان عليك فرضا، فَطَلَب علمه فَرْضا، وما لم يكن العمل به عليك فرضا، فليس طلب علمه عليك بواجب )ا.هـ

حقيقة العلم
حقيقة العلم الشرعى أنه يبحث فيما يتعلق بمعرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم ومعرفة دين الإسلام بالأدلة الشرعية. قال ابن حجر فى فتح البارى : والمراد بالعلم العلم الشرعى الذى يفيد معرفة ما يجب على المكلف فى أمر دينه وعباداته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه ) ا. هـ
ولذلك يجب على كل مسلم أن يتعلم من علوم الشريعة ما تصح به عبادته من توحيد وطهارة وصلاة وزكاة وصيام وحج، وما تصح به معاملاته من بيع وشراء ونكاح وطلاق وما يحل له من المأكل والمشرب والملبس واللهو والمال وغير ذلك مما لا يَسَع الجهل به لأحد من الناس، وأما علوم القضاء والمواريث والحدود والجنايات والجهاد فهى فرض كفاية إذا قام بها البعض سقط الحَرَج عن الباقين وإذا تَرَكها الجميع أَثِمُوا.
فضل العلم والعلماء

وفى الإشادة بالعلم ونفى تسوية أهله بغيرهم قال تعالى ( قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون )(1) وفى فضل العلماء العاملين وردت نصوص شرعية تبين قدر العلم والصفات والفضائل التى يتميز بها العلماء، وأولها : الخشية وهى الخوف من الله وهذه من أعظم المنازِل. قال تعالى ( إنما يَخْشَى اللهَ مِن عبادِهِ العُلَماءُ )(2) وثانيها : اقتران شهادتهم بشهادة الله تعالى والملائكة وهذا نوع من التزكية لأن الله لا يستشهد لمن خلقه إلا العُدُول. قال تعالى ( شَهِدَ اللهُ  أنه لا إله إلا هو والملائكة وأُولوا العلم قائما بالقسط .. (3) وثالثها : كَوْنُه فَضْلا من الله يستحق الدعاء لزيادته قال تعالى ( وَقُل رَبِّ زِدْنِى عِلْما )(4) ورابعها : ارتفاع درجات أهله إذا بَنَوْه على الإيمان، قال تعالى ( يرفع اللهُ الذين آمَنُوا منكم والذين أوتوا العلم درجات )(5) وفى فتح البارى ( ورفعتها تشمل المعنوية فى الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصِّيِت، والحِسّيَّة فى الآخِرَة بعلو المنزلة فى الجنة ) ا.هـ وخامسها : أن العلم يُسّهِّلُ لهم الطريق إلى الجنة حيث يستغفر لهم مَن فى السماوات والأرض، لقوله صلى الله عليه وسلم ( ومَن سَلَكَ طريقا يَلْتَمِسُ فيه عِلْماً سَهَّلَ اللهُ به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قَوْمٌ فى بيت مِن بُيوت الله يَتْلُون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نَزَلَتْ عليهم السكينة وحَفَّتْهُم الملائكةُ وغَشِيَتْهُم الرَّحْمَة وذَكَرَهم الله فِيمَن عِنْدَه )(6)
-------------------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة الزمر : 9                            (2) سورة فاطر : 28
(3) سورة آل عمران : 18                     (4) سورة طه : 114  
(5) سورة المجادلة : 11                        (6) رواه مسلم وأبوداود والترمذى رحمهم الله تعالى.

وسادسها : شفاعتهم يوم القيامة، مما يدل على عُلُو مكانتهم ومنزلتهم عند الله تعالى  وإليك هذا الحديث من أحاديث الشفاعة والدال على عموم الشفاعة في الأنبياء وغيرهم ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَال َ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ . . . فذكر الحديث ، حتى ذكر مرور المؤمنين على الصراط وشفاعتهم في إخوانهم الذين دخلوا النار ولا شك أن العلماء من بينهم : ( يَقُولُونَ رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ ...  )(1)
وسابعها : حصولهم على الأجر العظيم، لحديث ( مَن عَلَّمَ عِلْماً فَلَه أجر مَن عَمِلَ به، لا ينقص مِن أجر العامل )(2) وثامنها : دلالة العلم على خيرية أهله وشهادته لهم بالفضل، فَعَن معاوية رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( مَن يُرِدِ اللهُ به خَيْراً يُفَقِّهُ فى الدِّينِ، وإنما أنا قاسِم، والله يُعْطِى ولَن تَزال هذه الأمَّةُ قائِمَة على أمر الله لا يَضُرُّهم مِن خالَفَهُم حتى يَأْتِىَ أمرُ اللهِ عز وجل )(3)
 وقال على بن أبى طالِب رضى الله عنه : العالِم أفضل مِن الصائم القائِم المجاهد وإذا مات العالِم ثُلِمَ قى الإسلام ثُلْمَة(4)
وقال ابن مسعود رضى الله عنه : عليك بالعلم قبل أن يُرْفَع، ورفعه موت رُواته، فوالذى نفسى بيده لَيَوَدنَّ رِجال قُتِلُوا فى سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لِما يَرَوْنَ مِن كرامتهم، وإن أَحَداً لَم يُولَد عالِما، وإنما العِلم بالتعلم(5)
وعن معاذ بن جَبَل رضى الله عنه أن النيى صلى الله عليه وسلم قال ( فَضْل العلِم على العابِد، كَفَضْلِ القَمَر ليلة البَدْر على سائِر الكواكب )(6)
وعن أبى أُمامَة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( فَضْل العالِم على العابِد كَفَضْلِى على أدناكُم، إن الله عز وجل وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النَّمْلَة فى جُحْرِها، وحتى الحُوت، لَيُصَلُّونَ على مُعَلِّم الناس الخَيْرَ )(7)
وعن حُذَيْفَةَ بَن اليَمان رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( فَضْل العِلم أَحَبُّ إلَىَّ مِن فضل العِبادَة، وخَيرُ دِينِكم الوَرَع )(8)
----------------------------------------------------------------------------------------
(1) رواه البخارى رحمه الله تعالى
(2) رواه ابن ماجه عن معاذ بن أنس – صحيح الجامع رقم ( 6396 )
(3) رواه أحمد والبخارى ومسلم رحمهم الله تعالى
(4) الثُّلْمَة : الخَلَل فى الحائط وغيره ( مختار الصِّحاح ص 250 )
(5) أصول المنهج الإسلامى ص 119، 122
(6) رواه أبو نعيم فى الحلية – صحيح الجامع رقم ( 4212 )
(7) رواه الترمذى – صحيح الجامع رقم ( 4213 )                 (8) رواه البَزَّار والحاكِم – ص.ج رقم ( 4214 )

وعن أبى الدَّرْداء رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( مَن سَلَكَ طريقا يَطْلُبُ فيه عِلْماً، سَلَكَ اللهُ به طريقا مِن طُرُقِ الجَنَّة، وإن الملائكةَ لَتَضَعُ أجنِحَتَها لطالب العِلم رِضَاً بما يصنع، وإن العالِم لَيَسْتَغْفِر له مَن فى السموات ومن فى الأرض والحيتان فى جَوْفِ الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لَم يُوَرِّثُوا دينارا ولا دِرْهَما، إنما وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَن أخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ وافِر )(1)
ولا بد لطالب العلم من إحضار نية تقوم على رفع الجهل عن نفسه وعن الناس. قال الإمام أحمد بن حَنْبَل رحمه الله تعالى : لا شَئَ يَعْدِل العِلم لِمَن حَسنت نيته. قيل كيف ذلك ؟ قال ينوِى به رفع الجهل عن نفسه وعن الناس. ا. هـ وعلى هذه النية مدار التقوى . قال تعالى ( واتقوا الله ويعلمكم الله )(2) ولأن طلب العلم عبادة، والإخلاص والعمل به هو سبيل الانتفاع به وسبب التوفيق لبلوغ المراتب العُلْيا فى الدنيا والآخِرَة، وحينما يتعلم الإنسانُ العِلْمَ الذى يُبْتَغَى به وَجْه اللهِ مما تُعْرَفُ به الأحكام مِن حلال وحرام بقصد عَرَضٍ دُنيَوِىّ أو مادىّ يدفعه إلى ذلك فهذا مِن القَصْد السَّيئٍ الذى يعاقِب اللهُ عليه. فَعَن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( مَن تَعَلَّمَ عِلْما مِمَّا يُبْتَغَى به وجه الله لا يَتَعَلَّمُه إلا لِيُصِيب به عَرَضا مِن الدنيا لَمْ يَجِد به عَرْفَ الجَنَّة يوم القيامة )(3)
وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( مَن تَعَلَّمَ  العِلْمَ  لِيُباهِى به العلماءَ، أو يُمارِى به السُّفَهاءَ، أو يَصْرِفَ به وُجُوهَ الناسِ إليه، أَدْخَلَهُ اللهُ جَهَنَّمَ )(4)

الطريقة المشروعة لاكتساب العِلْم
ومما يجب التنويه عنه فى هذا الموضوع أن لا ينبغى أخذ العلم عن أهل الأهواء والبدع والمتساهلين الذين عُرِفُوا بِقِلَّةِ الوَرَع ومخالفة السُّنَّة، لا سيما إن كانت مخالفتهم فى أمر من أمور العقيدة كَمَن يُؤَوِّلُون صفات الله تعالى ومَن يحتجون بالضعيف والموضوع من الأحاديث، وأفضل طريقة لاكتساب العلم : هى اختيار المُعَلِّم الثِّقَة فى دِينه وحِكْمَته وعلمه وصحة عقيدته واتباعه لمنهج السلف الصالح، والبِدْء بالمُخْتَصَرات والمُتُون التى يتدرج بها الطالب، ويتخذ منها سُلًّما إلى المُطَوَّلات، ثم العناية بمعرفة المسائل والدلائل الشرعية ومعرفة أصول العقيدة والحديث والتفسير ودراسة أحكام القرآن الكريم واختيار المَراجِع العِلْمِيَة السهلة المُيَسَّرَة، ثم إذا وجد من نفسه قدرة على التحصيل والفهم عَمَدَ إلى المطولات من أمهات الكتب، ففيها خير كثير.
---------------------------------------------------------------------------------------
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حِبَّان رحمهم الله تعالى – صحيح الجامع رقم ( 6297 )
(2) سورة البقرة : 282
(3) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم رحمهم الله تعالى – صحيح الجامع رقم ( 6159 )
(4) رواه ابن ماجه رحمه الله تعالى عن أبى هريرة رضى الله عنه – صحيح الجامع رقم ( 6158 )

وأما الإعراض عن العلم فهو من أسوأ ما يصاب به الإنسان. قال تعالى ( ومَن أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّه ثُمَّ أَعْرَضَ عنها .... ) سورة السجدة : 22 . قال ابن كثير رحمه الله تعالى : أى لا أحد أظلم ممن ذَكَّرَه اللهُ بآياته وبَيَّنها له ووضحها ثم بعد ذلك تَرَكها وجحدها وأعرضَ عنها وتناساها كأنه لا يَعْرِفها. ا.هـ

السبت، 11 مايو 2013

يا أيُّها الذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً



( يا أيُّها الذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ )  ( سورة الحجرات : 12 )

الظَّنّ : اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قَوِيَتْ أدَّتْ إلى العلم، ومتى ضَعُفَتْ حَدّاً لم يتجاوز حَدَّ التَّوَهُّم ومتى قوي أو تصوَّر تَصَوُّر القَوِيّ استعمل معه "أنَّ" المشددة وأنْ المخففة منها . ومتى ضعف استُعمل أنَّ وأنْ المختصة بالمعدومين من القول والفِعل فقوله ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم )، وكذا فَمِنَ اليَقين ( وَظَنَّ أَنَّهُ الفِراق ) وقوله ( ألا يظن أولئك ) وهو نهاية في ذمهم ومعناه ألا يكون منهم ظنُّ لذلك تنبيهاً أن أمارات البعث ظاهرة .
وقوله ( وظن أهلها أنهم قادِرون عليها ) تنبيهاً أنهم صاروا في حكم العالِمِين لِفَرْطِ طَمعهم وأملهم . وقوله ( وظن داودُ أنما فتناه ) أي عَلِم. والفتنة ها هنا كقوله ( وفتناك فتونا ) . وقوله ( وذا النون إذ ذهب مغاضِباً فظن(1) أن لن نقدر عليه ) فقد قيل اَلأَوْلَى أن يكون من الظن الذي هو التوهم أى ظن أن لن نضيق عليه . وقوله تعالى ( واستكبر هو وجنوده فى الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) تنبيها أنهم اعتقدوا ذلك اعتقادهم للشئ المتيقن وإن لم يكن متيقناً. وقوله تعالى ( يظنون بالله غير الحق ظن  الجاهلية ) أة يظنون أن النبى لم يصدقهم فيما أخبرهم به، كما ظن أهل الجاهلية تنبيهاً أن هؤلاء المنافقين فى حَيّز الكفار، وظنوا أنهم اعتقدوا اعتقادا كانوا منه فى حكم المتيقنين، وعلى هذا قوله ( ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ) وقوله ( الظانين بالله ظن السَّوء ) هو مفسَّر بما بعده. وهو قوله تعالى ( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول – إن نظن إلا ظنا ) والظن فى كثير من الأمور مذموم ولذلك قال ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا – وأنهم ظنوا كما ظننتم )وقُرِئ ( وما هو على الغيب بظنين ) أى بِمًتَّهَم (2)
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظنّ وهو التهمة والتخون للأهل والناس فى غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، قال عمر بن الخطاب : لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها فى الخير مَحْمَلا. وعن عبد الله بن عمر قال : رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول ( ما أطْيَبَكِ وأطيبَ ريحك، ما أعظَمَكِ وما أعظم
-------------------------------------------------------------------------------------------
(1) فظن هنا بمعن اليقين أى تيقن أن الله لن يضيق عليه وهو حسن ظن الأنبياء بالله تعالى
(2) المفردات للراغب ص 320

حرمتك، والذى نفسى بيده لَحُرْمَةُ المؤمن أعظم عند الله تعالى حُرْمَة منكِ ماله ودمه وأن يُظَنَّ به إلا خيرا )(1) وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إياكم والظنَّ، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يخطب الرجل على خِطْبَة أخيه حتى ينكح أو يترك )(2)
وقوله تعالى ( ولا تجسسوا ) أى على بعضكم بعضا، والتجسس غالبا يطلق فى الشر ، ومنه الجاسوس. وأما التَّحَسُّس فيكون فى الخير كما قال عز وجل إخبارا عن يعقوب عليه السلام ( يا بَنِى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا مِن رَوْح الله ). وقال الأوزاعى : التحسس البحث عن الشئ، والتجسس الاستماع إلى حديث القوم أو يتسمع على أبوابهم.
وقوله ( ولا يغتب بعضكم بعضا ) فيه نهى عن الغيبة، وقد فسرها الشارع كما جاء فى الحديث الذى رواه أبو داود عن أبى هريرة قال : قيل يا رسول الله : ما الغِيبَة ؟ قال صلى الله عليه وسلم ( ذِكْرُكَ أخاك بما يكره ). قيل : أفرأيت إن كان فى أخى ما أقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم ( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه ) أى ظلمته. وعن عائشة رضى الله عنها قالت : قلت للنبى صلى الله عليه وسلم : حسبك مِن صفية كذا وكذا، تعنى أنها قصيرة. فقال صلى الله عليه وسلم ( لقد قلتِ كلمة لو مُزِجَتْ بماء البحر لَمَزَجَتْه ). قالت : وحكيت له إنسانا ( أى قلدت إنسانا بحركاته ) فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما أحب أنى حَكِيتُ إنسانا وأن لى كذا وكذا )(3). والغِيبَة مُحَرَّمَة بالإجماع، ولا يُستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته كما فى الجرح والتعديل والنصيحة (4)
إن الصرح الشامخ من المؤاخاة والترابط والتعاون والتآلف الذى بناه النبى صلى الله عليه وسلم بل وتعهده إلى آخِر حياته، أعظم ما يدمره وأكبر المعاول التى تأتى على آخره هى الآفة الاجتماعية التى انتشرت بين المسلمين ومع الأسف، فقد تكون هذه الآفة بين الأشِقَّاء وبين التجار، وقد تكون بين طلبة العلم، وهذه شرها وأقبحها وأكثرها ضررا على الأفراد والمجتمعات. فالحذر كل الحذر مِن طلاقة اللسان للنيل من أعراض الناس بالغيبة والنميمة.
واعلم يرحمك الله أن كلا الأمرين أو أحدهما إذا تفشى فى مجتمع لحقت به الفُرْقَة والشقاق والخلاف والتنازع ثم يَؤول المجتمع إلى الضعف والهوان، وهذا ما نعيشه فى زماننا المعاصر،
-----------------------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه ابن ماجه رحمه الله تعالى فى سننه
(2) رواه مالك وأحمد والبخارى ومسلم وغيرهم رحمهم الله تعالى – صحيح الجامع رقم ( 2679 )
(3) أخرجه أبو داود والترمذى رحمهما الله تعالى
(4) مختصر تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى ج2 ص 364

فنجد المسلمين وأهل العقيدة السليمة قد أصابهم هذا الوباء القاتل، فتجدهم شِيَعا وأحزابا، لكل فرد منهم جماعة، ولكل واحد منهم فِئَة يتعصب لها ويُوالِى ويُعادِى مِن أجلها بغير برهان ولادليل واضح قاطع الدلالة. قال تعالى ( وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم.. )(1). فليعلم المسلم أن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، وهو حريص على تفريق الإخوان، وقد صَحَّ الحيث فى ذلك ( إن الشيطان قد أَيِسَ أن يَعْبُدَه المُصَلُّونَ ولكن فى التحريش بينهم )(2). وقال تعالى ناهيا عباده عن تتبع خطوات الشيطان ( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ... )(3). فالحذر كل الاحذر مِن ذلك العدو المبين الذى أخذ الميثاق على نفسه بإغواء بنى آدم.
ورحم اللهُ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيز، فقد رُوِىَ عنه أن دخل على رجل فذكر له عن رجل شيئا، فقال له عمر : إن شئت نظرنا فى أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا.. )(4) وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية ( هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم )(5). وإن شِِئْتَ عفونا عنك، فقال الرجل : العَفْو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبدا.
وقال صلى الله عليه وسلم ( وتجدون مِن شَرِّ الناس يوم القيامة : ذا الوَجْهَيْنِ يوم القيامة : ذا الوَجْهَيْنِ الذى يأتى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه )(6). فهم شر الخلق عند الله تعالى، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( أَلا أُخْبِرُكُم بِشِرارِكُم. قالوا : بلى، قال : المَشَّاؤون بالنميمة، المُفْسِدونَ بين الأحِبَّة الباغون للبراء العَنَت )(7)
أخى الكريم، عندما تتأمل ألسنة الناس، ستجدها نارا تحترق وأفاعى تلدغ، فيا لها من ألسنة تزرع الهموم، وتثمر الغموم وتحصد الشرور، إنه عضو صغير الحجم ولكنه عظيم الأثر والمفعول، فَكَم من كلمة أنشبَتْ حَرْبا بين الناس.
وكم من كلمةِ سُوءٍ نُقِلَتْ بين الإخوان فقطعت أواصر المحبة بينهم.
وكم من كلمة مزقت أُسْرَة وشردت أطفالا بعدما كانت السعادة ترفرف على ربوعهم.
وكم من كلمة كانت سببا فى قتل مؤمن وهتك عرض مسلمة ودمار للممتلكات العامة والأموال.
وكم من كلمة أخرجت المسلم مِن دائرة الإبمان والتوحيد إلى دائرة الكفر والشرك والطغيان.
--------------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة الإسراء : 53                        (2) صحيح الجامع للألبانى رقم ( 1651 )
(3) سورة النور : 21             (4) سورة الحُجُرات : 6           (5) سورة القلم : 11
(6) رواه أحمد والبخارى ومسلم عن أبى هريرة – صحيح الجامع رقم ( 2916 )
(7) صحيح الأدب المُفْرَد للبخارى ص 323

وكم من كلمة سوء أذاعها المرجفون بين صفوف الشباب المسلم فبادت وحدتهم لشتات، وقوة كلمتهم لوهنٍ وذل وعار. وكم من مسلم قال كلمة كُتِبَ له بها رضوان الله تعالى إلى يوم يلقاه.
وكم من كلمة خرجت لا يلقى صاحبها لها بالاً قذفته فى نار جهنم أبعد ما بين المشرق والمغرب.
وكم من الويلات والآهات والجحيم صُلِيَتْ بها الأمة بسبب الغيبة والنميمة لتساهل الناس بذلك، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول ( أكثرُ خطايا ابنِ آدم فى لسانه )(1)
أخى الكريم، اعلم وفقنى الله وإياك لكل خير وهداك وسدد على الصراط المستقيم خُطاك : أن الغِيبَة والنميمة من كبائر الذنوب وعظائمها. فقد توعد اللهُ سبحانه وتعالى ونبيهُ صلى الله عليه وسلم مرتكبهما بالعذاب الأليم، وبشره بالنكال والأغلال – أعاذنا الله وإياك – وما ذلك إلا لِعِظَمِ آثار الغيبة والنميمة فى المجتمعات، وخاصة المجتمعات التى تتميز بالالتزام والاستقامة على منهج الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه الطبقات هى التى يجدر بها الابتعاد عن هذه العظائم، لأن انزلاقها فى هذه الشهوة له تَبِعات وآثار لا يُحْمَد عُقْباها على عامة المسلمين، فمتى ما نظر الناس إلى المُلْتَزمين الذين هم بمثابة القدوة الحسنة الصالحة وهم الذين يتمثلون بهدى خير العباد عليه الصلاة والسلام، ثم يُفَاجَأ العامة بأن أولئك المنتسبين للإسلام هم من أكثر خلق الله خِلافا وجِدالا ومِراء على المسائل الخِلافية فى الإسلام، ووسائل الدعوة والإرشاد – إلا مَن رَحِمَ اللهُ - فلا شك أن هذه المفاجأة سوف تؤثر تأثيرا مباشرا على قناعة الناس ومدى استقبالهم وتأثرهم بالوعظ والتوجيه والإرشاد.
واللهِ الذى لا إله غيره، إن القلب لَيَحْزَن وإن العين لَتَدْمَع والكَبِد يتفطر حُزْنا وأسَى عندما يتفكر المسلم الغَيور بهذه الحال المُزْرية التى وصل إليها بعض دعاة الإسلام وحُماته مِن طعن وشتم وسب ولعن وغيبة ونميمة وتُهَمٍ باطلة ومناظرات جَوْفاء لا طائل من وراءها، وكره وشحناء وتدابر وقطيعة لأواصر المحبة والأُخُوَّة التى أمر الله تعالى بها وتشاهد على صفحات الجرائد والمجلات إذاعةً للخلاف بين من ليس له فى الأمر ناقة ولا جمل، وتأليف الرسائل والكتب فى الرد على دعاة الإسلام المخلصين والتشنيع عليهم و .... و..... و ..... و .....
كل هذا الشقاق والفرقة حدثت ومع الأسف من بعض أولئك المنتسبين لهذا الدين العظيم الذى يأمر بكل ما يصلح بين الناس ويزرع بذور المحبة والإخلاص والوفاء والتضحية والإيثار فى تربة المجتمع المسلم، وما ذاك إلا بسبب فهمهم القاصر لمقاصد هذا الدين العظيم وبسبب ضعف إدراكهم لدرجات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وجهلهم بأن الاختلاف أنواع، فمنه ما هو سائغ كاختلاف التنوع فلا يُنْكَر فيه على المخالف، ومنه ما هو غير سائغ وغير مُعْتَبَر شرعا كاختلاف التضاد.
-----------------------------------------------------------------------------------------
(1) رواه الطبرانى  وصححه الألبانى فى السلسلة الصحيحة رقم ( 534 )

وهناك آفات كثيرة ينبغى على المسلم أن يحفظ لسانه عنها. منها :
·        حفظ اللسان عن فضول الكلام وزيادته بما لا فائدة من ورائه.
·        حفظ اللسان عن الكلام فيما لا يعنى(مِن حُسْنِ إسلام المَرْءِ تَرْكُه ما لا يَعْنِيه) (1)
·   حفظ اللسان عن المِراء والمُجادَلَة لما تُورِث من الضغائن والكراهية ( ماضل قوم بعد هُدَىً كانوا عليه إلا أُوتوا الجَدَل )(2)
·   حفظ اللسان عن الفُحْش والسب والطعن واللعن ( ليس المؤمن بالطَّعَّان ولا اللَّعَّان ولا الفاحش ولا البَذِئ)(3). والفُحْش هو التعبير عن الأمور المستقبحة بألفاظها الصريحة الدارِجَة على ألسنة العامة ( لعن المؤمن كقتله)
·        حفظ اللسان عن رمى المؤمن بالكفر، كمن يقول هذا يهودى أو كافر. ( مَن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله )(4)
·        حفظ اللسان عن الاستهزاء والسخرية بالناس واحتقارهم ( بحسب امرئ من الشر أن يَحْقِرَ أخاه المسلم )(5)
·   حفظ اللسان عن كثرة المزاح، قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ( مَن كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استُخفَّ به، ومن أكثر من شئ عُرِفَ به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قَلَّ حياؤه، ومن قل حياؤه قل وَرَعُه، ومن قل ورعه مات قلبه )
·   حفظ اللسان عن الكذب خاصة فى وقت ا لمزاح، وأعظم الكذب على الإطلاق الكذب على النبى صلى الله عليه وسلم بالافتراء عليه والتَّقَوُّل عليه بغير علم.
·        حفظ اللسان عن شهادة الزور؛ وهى أن تشهد على شئ لم تكن حاضرا فيه ( واجتبوا قول الزور(6)
·        حفظ اللسان عن المَنّ بالعَطِيَّة ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى )(7)
-----------------------------------------------------------------------------
(1) رواه الترمذى وابن ماجه عن أبى هريرة رضى الله عنه – صحيح الجامع رقم ( 5911 )
(2) رواه الترمذى عن أبى الدرداء – ص.ج رقم ( 5633 )
(3) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس رضى الله عنهما – صحيح الجامع رقم ( 5381 )
(4) رواه البخارى ومسلم رحمهما الله تعالى.
(5) رواه مسلم رحمه الله تعالى.
(6) سورة الحج : 30
(7) سورة البقرة : 264